سؤال.. ماذا يوجد فى ثلاجتك؟.. الإجابات عديدة ومتنوعة.. من لا شىء سوى زجاجات مياة كانت سابقا لمشروبات غازية.. جرت عملية اعادة استخدام لها.. بملئها بالمياة.. إلى مالا نهاية من كل صنوف الطعام..
إذا كانت ثلاجتك عامرة فألف هناء وشفاء.. وإذا لم يكن بثلاجتك سوى المياة.. فأنت تفهم جيدا ما قاله الرئيس الجنرال.. لا سيما إذا كنت من جيل عاصر نكسة يونيو 67 أو الاستعداد لحرب اكتوبر 73.. ثم الحرب وما بعدها.. وتسعينات والفينات تردى الاقتصاد والخصخصة وتجبر رجال المال.. إذا كنت ممن ينتمون للطبقة الوسطى.. وهم غالبية المصريين العظمى.. ستفهم جيدا معنى ألا يكون فى ثلاجتك سوى زجاجات المياة!!
هذا وطن اعتاد من مئات السنيين أن يطهو طعامه يوما بيوم.. جزء من تفاصيل “الموزاييك” الذى يشكل الشخصية المصرية.. التى ارتبطت بالنيل.. منه المياة، ومنه الحياة، ومنه كل شىء.. جذب المصريين إلى ضفافه.. فاستقروا على جانبيه منذ آلاف السنين.. ربطوا حياتهم به.. وعاشوا على واديه حتى الآن.. ومن ارتباطهم بالنيل.. كان تقديسهم للمياة.. ومنها كان تنوع مزروعاتهم ومحاصيلهم طوال العام.. وكان إبداعهم فى الطهو وصناعة أطباق مختلفة.. ولكل منطقة أطباقها الخاصة.. من الوجه البحرى إلى الصعيد إلى الدلتا إلى الغرب.. هذا التعدد منحهم فرصة ممارسة الطهو بشكل يومى.. وهذا الإبداع المتكرر فى التذوق منحهم قدرة عالية على الاستمتاع بالطعام.. يوما بيوم.. وما يتناولونه فى الإفطار يختلف عما يتناولونه فى الغذاء أو العشاء.. وصارت بمرور السنين تلك عادة مميزة لهذا الشعب.. ظلت فى منطقة اللاوعى، حتى عندما حدث تغيير ما فى سلوكه.. نهاية سبعينات القرن الماضى.. عندما غادر الكثيرين إلى دول النفط.. ثم عادوا بثقافة “التخزين” والتسوق فى المولات التجارية.. فكدسوا أموالا جنوها فى البنوك.. وكدسوا أطعمتهم اسبوعيا فى ثلاجات ضخمة.. وفقدا القدرة على الاستمتاع بالحياة بما جنوه.. أو الاستمتاع بطعام خزنوه.. وبعد سنوات غربة طوال.. عادوا إلى مصر حاملين معهم ثقافة التخزين.. لتستشرى فى المجتمع المصرى!!
ولأنه شعب اعتاد دائما المرور بسنوات عجاف.. فلم يكن أبدا يلقى بالا إلى أيام قد تكون ثلاجته خاوية على عروشها إلا من الماء.. فـ”زلعة المش” مخبأة فى ركن ما فى المطبخ.. جاهزة فى الأيام العجاف.. لا تحتاج ثلاجة لحفظها.. وبضع من أرز وعدس وبصل جاهزين لصنع طبق مصرى عبقرى “الكشرى”.. لا يحتاج ثلاجة لحفظه.. وأشياء أخرى كثيرة ابتكرها المصريين لا تحتاج ثلاجة للتخزين.. وفى السنوات العجاف.. يعود المصريين إلى سابق طقوس ورثوها.. الطهو يوم بيوم.. أو الطبخ يوم.. والاعتماد على الفول المدمس والطعمية يوم آخر.. أو طبق من “البصارة” تهدية جارة يوما ثالث.. لا يؤرقهم أن تكون الثلاجة خالية إلا من الماء.. فهم يعرفون فى داخلهم أن الأيام العجاف قصيرة وإن طالت!
وعندما صارت الثلاجة ركن ركين فى تأثيث منزل الزوجية فى نهاية سبعينات القرن الماضى.. تعامل معها الشباب باعتبارها ديكورا يدل على فخامة التأثيث.. فلم يكن مطروحا وقتها فى ثقافتهم تخزين الطعام.. تشترى الثلاجة.. وتحفظ المياة.. وبعض الفاكهة والخضروات.. لكن ظل الطعام يطهى يوما بيوم.. واللحوم تشترى من الجزار حين الحاجة.. وبتطور النمط الجديد صارت تحفظ الطعام واللحوم قبل هجوم اختراع آخر.. “الديب فريزر”.. لكن الشباب الذى اقتناها فى البداية.. من أبناء أسر الطبقة الوسطى.. كان يفضل ألا يكون فى ثلاجته سوى الماء فى نهاية الشهر.. على أن يصرح لأهله بفراغها حتى لو كانوا ميسورين!!
وبانفتاح “السداح مداح”.. كما أسماه الأستاذ “أحمد بهاء الدين”.. صارت الثلاجة عند الجميع.. بغض النظر عن استقرار الدخل أو المهنة.. اقتناها كل من عمل مهنة موسمية أو يومية أو “على باب الله”.. إذا أعطى الله فاض عطائه على أهل البيت.. وإذا لم يعط عاد المصرى إلى ثقافة الإبداع والابتكار فى الطعام التى لا تحتاج ثلاجة.. مستمتعا بتجرع ماء مثلج تمتلىء به ثلاجته.. لا يعير اهتماما لأمر امتلائها من عدمه.. الثلاجة ليس بها سوى المياة.. جملة يعلمها جيدا جموع المصريين.. لم تكن تحتاج أى توضيح.. لولا وجود بعض من يعتقدون فى أنفسهم – وهما – الظرف وخفة الظل.. الذين انبروا للسخرية من الكلمة.. سخرية التقطها نكرة.. ليعلق فى جمع رسمى بسماجة منقطعة النظير.. وهو ما استدعى تأديبه شعبيا على نحو معتبر.. شارك فيه المؤيدون والمعارضون.. فى حملة تفوق تلك التى قام بها المصريين ضد دولة قاعدتى “السيلية والعيديد” منذ عام!..
ثلاجتى ليس بها سوى ماء.. فطعامى كرامة طازجة لا تحتاج لتخزين.. ثلاجتى ليس بها سوى ماء.. لكنى ممتلىء شبعا بحضارة علمت العالم، لا يعرفها الصحراويون.. ثلاجتى ليس بها سوى ماء.. لكن ذراعى صلب، يحمل فأسا فيزرع.. ويقف على آلات عملاقة فيصنع.. ويحمل سلاحا يرفعه فى وجه كل من تسول له نفسه الاقتراب.. ثلاجتى ليس بها سوى ماء.. لكنى إبن هذه الأرض التى تجلى الله عليها.. دونا عن بلدان العالم.. ومر بها أنبياؤه على مر العصور.. منها هاجر.. ومنها ماريا القبطية.. منها أحمس ومينا وحتشبسوت.. ومنها ناصر والسادات والمواطن الجنرال عبد الفتاح السيسى!