لم تعرف أجسادهم طريقًا للراحة ولم تتذوق أعينهم لذة النوم ولم تستشعر قلوبهم معني الأمان، قضوا حياتهم على قضبان القطار لا يؤنسهم شيء سوي صفارته المزعجة التي تنطلق بأعلى صوتها فيخفت معها قلبهم وتكاد تتوقف نبضاته حين تأتي، والمارة الذين يغفلون عن رؤية القطار، فيأخذهم بين أحضانه المميتة ليمزق أجسادهم ويلقيها أمامهم ويمضي.


على مزلقان السكة الحديد بمحطة قطار بشتيل، تعيش"سيدة إبراهيم" وسط أكوام القمامة والحشرات بعد أن طلقها زوجها وطردها هي وابنها الوحيد، تقول:" عايشة هنا بقالي 5 سنين، بسترزق من الزبالة بطلع منها البلاستيك والكرتون وببيعه، بنام على الأرض وفي الشتا بعمل عشة صغيرة وبنام فيها عشان المطر، ابنى اللي كان شايلنى وبيأكلنى أتحبس وبقيت عايشة لوحدي وعربيات الأكل اللي حوالين المزلقات صحابها يعرفوني وبيأكلوني لما بجوع".

مشاهد مفزعة شاهدتها المرأة الخمسينية خلال الـ5 سنوات التي قضتهم على القضبان لا تفارقها خيالها لحظة، كلما تجلس بمفردها تتذكرهم وكأن مشاهدهم تتكرر من جديد أمامها بكافة تفاصيلها:" مرة واحد أطرش كان بيلم زبالة من على المقلب والقطر جاي وراه وعمال يصفر وهو مش سامعه حاولت احذره لكن ملحقتش، القطر داس عليه قدامي ونصه اللى تحت أترمي عليا وفضلت أصرخ وقعدت شهر مش بنام من كتر الفزع".

تتذكر "سيدة" ذلك المشهد المرعب فتملئ عينيها بالدموع وتدخل في نوبة بكاء عارمة، تواصل سرد مأساتها قائلة:" كابينة الكهربا اللي بنام جنبها كلها تعابين، مرة وأنا نايمة خرج تعبان منه ولقيته بيلف حوالين رقبتى صحيت مفزوعة ولما صرخت الناس جت قتلته"، تؤكد "سيدة" أنها لجأت إلي رئيس الحي ليوفر لها غرفة صغيرة تعيش فيها بعيدًا عن هذا الجحيم لكنه لم يلق لها بالًا:" نفسي في أوضة لو تحت بير السلم بس أغمض عيني وأنا حاسة بالأمان، وفي بياعين كل شوية بيتخانقوا معايا لما بعمل العشة عشان أنام فيها وبيبهدلوني".


ربما كانت معاناة الحاج "محمد" وزوجته "سعدية" أقل بكثير من معاناة "سيدة" حيث يعيشا سويًا في غرفة صغيرة على مزلقان السكة الحديد بمحطة قطار أبو زعبل، يقول الحاج محمد:" كان عندي ولدين وبنت الاتنين ماتوا وسابولى 6 عيال الكبيرة فيهم في جامعة وأنا كنت عامل في المزلقان ومعاشي مش بيكفي حاجة، مش بنعرف ننام من صوت القطر ده غير أن كل يوم نشيل واحد متقطع من تحت القطر والعيال بتتفزع".

يعانى "محمد" من عجز في قدميه بالإضافة إلي إصابته بمرض السكر والغضروف:" لو فيا صحة كنت اشتغلت وصرفت عليهم"، تجلس إلي جواره زوجته "سعدية" تتشح باللون الأسود وتبدو علامات الحزن على وجهها، تتذكر أبناءها الاثنين قائلة:" لو كانوا عايشين مكناش أتبهدلنا كده، البنت ماتت بجلطة والواد كان عنده فشل كلوي، نفسي نسكن في مكان بعيد عن القطر".