تحتفل مصر، اليوم، بذكرى أنبل الرجال، وأشجع الرجال عبر كل العصور «شهداء مصر الأبرار».
فى مثل هذا اليوم منذ 48 عامًا، استُشهد الفريق أول عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، آنذاك، لتخلد ذكراه العطرة لآلاف الشهداء الذين ضحوا بحياتهم لكى يبقى الوطن حرًا وعزيزًا وأبيًا.
وفى هذه اللحظات التى يبحث فيها شباب الوطن عن نقطة ضوء تنير لهم الطريق للمستقبل، وعن قدوة تُعينهم على رسم ملامح لمسار حياتهم المهنية والأخلاقية، رأيت أن ألقى الضوء، فى مقال اليوم، على أهم لمحات من حياة هذا البطل العظيم حتى لحظة استشهاده بين جنوده، على بعد 250 مترًا فقط من مواقع العدو.
وُلد الفريق أول عبدالمنعم رياض فى قرية «سبرباى» بمدينة طنطا فى محافظة الغربية، يوم 22 أكتوبر عام 1919، ونشأ فى أسرة اشتهر عنها الالتزام والانضباط، حيث كان والده القائمقام (عقيد) محمد رياض عبدالله، قائد (بلوكات) الطلبة بالكلية الحربية، والذى تخرجت على يديه أعداد كبيرة ممن تولوا مناصب قيادية داخل القوات المسلحة، وقد تُوفى والده عام 1931، وكان عمره وقتها لا يتجاوز الثانية عشرة، وبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة التحق بكلية الطب، بناء على رغبة والدته، لكنه بعد عامين من الدراسة آثر الالتحاق بالكلية الحربية، التى كان يجد فى نفسه ميلًا شديدًا إليها، وتخرج فيها عام 1938، وكان ترتيبه الثانى على دفعته، وفى عام 1944 نال شهادة الماجستير فى العلوم العسكرية، وكان ترتيبه الأول عند التخرج، وخلال عامى (1945- 1946) أتمَّ دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات ببريطانيا، بتقدير امتياز، وحصل على زمالة كلية الحرب العليا من أكاديمية ناصر عام 1966، كما تلقى دراسات فى الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، حيث أطلق عليه الروس لقب «الجنرال الذهبى»، وكان شغوفًا بدراسة العلوم والرياضيات، مما جعله ينتسب لكلية العلوم- وهو أميرالاى (عميد)- حتى يستطيع دراسة الصواريخ المضادة للطائرات، كما انتسب- وهو فى رتبة الفريق- إلى كلية التجارة لإيمانه بأهمية الاقتصاد فى العلوم الاستراتيجية، وكعادة كل العظماء كان التفوق حليفًا له فى كل دراساته العسكرية والمدنية، كما كان يسعى دائمًا للتعرف على الثقافات المختلفة من أجل معرفة الكثير، وساعده على ذلك إجادته العديد من اللغات مثل (الإنجليزية- الفرنسية- الروسية- الألمانية).
وقد تدرج فى العديد من المناصب داخل القوات المسلحة، حتى عينه الرئيس جمال عبدالناصر فى منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة، يوم 11 يونيو 1967، بعد 6 أيام فقط من إخفاق يونيو، وعلى الفور بدأ فى العمل، الذى وصفه البعض بـ«المستحيل»، وهو إعادة بناء القوات المسلحة المصرية، ونجح فيه بشكل أسطورى.
وقد أشرف على الخطة المصرية لتدمير خط بارليف خلال مرحلة حرب الاستنزاف، ورأى أن يشرف على تنفيذها بنفسه، وتحدد يوم السبت 8 مارس 1969 موعدًا لبدء تنفيذ الخطة، وفى التوقيت المحدد انطلقت نيران المصريين على طول خط الجبهة لتُكبد الإسرائيليين أكبر قدر من الخسائر، فى ساعات قليلة، ومن أقواله الشهيرة حينئذ: «أنا لست أقل من أى جندى يدافع عن الجبهة، ولابد أن أكون بينهم فى كل لحظة من لحظات البطولة»، وهو ما حدث يوم استشهاده، حيث قرر أن يزور أكثر المواقع تقدمًا، والتى لم تكن تبعد عن مرمى النيران الإسرائيلية سوى 250 مترًا، ووقع اختياره على الموقع رقم 6، وكان أول موقع يفتح نيرانه بتركيز شديد على دشم العدو فى اليوم السابق، ويشهد هذا الموقع الدقائق الأخيرة فى حياته، حيث انهالت نيران العدو فجأة على المنطقة التى كان يقف فيها وسط جنوده، واستمرت المعركة- التى كان يقودها بنفسه- حوالى الساعة ونصف الساعة، إلى أن انفجرت إحدى دانات المدفعية بالقرب من الحفرة التى كان يقود المعركة منها، ما أسفر عن استشهاده.
ولم يهدأ بال القوات المسلحة، وأصرت على الثأر لاستشهاده فى عملية عسكرية، رواها اللواء محيى نوح، أحد أبطال العملية، فقال: أعطى الرئيس جمال عبدالناصر أوامر للقادة بتدمير الموقع الذى خرجت منه القذيفة الإسرائيلية، وكلفت وقتها المجموعة 39 قتال، بقيادة الشهيد البطل إبراهيم الرفاعى، بتولى المهمة، التى عُرفت باسم «لسان التمساح»، حيث تم استطلاع موقع العدو من منطقة بمبنى الإرشاد بمدينة الإسماعيلية، فوُجد أنه مُحصَّن جيدًا، فدَشَنَّا موقعًا مثله بالضبط على أرضنا، وبدأنا نتدرب عليه بطريقة شاقة جدًا، وقسَّمنا أنفسنا إلى أربع مجموعات للاقتحام، وبدأنا فى 19 إبريل 1969، بقيام المدفعية المصرية بالضرب على طول الجبهة، وانطلقنا بـ6 قوارب، وتحركنا من الإسماعيلية تجاه الموقع بمسافة 3 كيلو ببحيرة التمساح، وعند نزولنا جنوب الموقع أعطى إبراهيم الرفاعى تعليماته برفع ضرب المدفعية وتوقفها، وكنت أنا وقتها قائد مجموعة اقتحام، بقيادة البطل إبراهيم الرفاعى، وهاجمنا التحصينات الإسرائيلية، وتم قذف قنابل الدخان، ثم اليدوية، فخرج جنود العدو، وتعاملنا معهم بالرشاشات والأسلحة البيضاء عن طريق الخناجر فى قتال متلاحم، انتقامًا للشهيد عبدالمنعم رياض، وقتلنا 44 إسرائيليًا من قوة الموقع، وحرقنا جميع المقار الإدارية والعَلَم الإسرائيلى، ورفعنا العَلَم المصرى.
ومن عبدالمنعم رياض وإبراهيم الرفاعى ورفاقهما، إلى محمد هارون ومحمد أيمن شويقة وأبانوب صابر ورفاقهم، تتواصل مسيرة التضحية والفداء فى أسمى صورها، لتبقى مصر على مر الزمن عصية على أعدائها.