تتعامل أغلب المؤسسات الصحفية مع منصاتها الرقمية باعتبارها فرصة مستقبلية واعدة، ولكن يمكن تأجيلها قليلًا وقليلًا، ما دام في العمر بقية؛ وعلى الناحية الأخرى تتعامل مع نسختها المطبوعة كعجوز اقتربت ساعته، ولن يجدي علاجه أو حتى التفكير في جرعات منشطة، تضمن له نهاية «مرفوعة الرأس».
وما بين هذا وذاك، دخلت الصحافة المصرية في خندق مظلم، محصورة بين تغيرات وأوضاع اقتصادية صعبة، وسياسية مُصعّبة، وتكنولوجية غير جاهزة، وتنظيمية متنمرة تنذر باقتراب ساعة المواجهة والحسم.
أضف لذلك أوضاعًا مهنية متردية، أكلت كثيرًا من رصيد الثقة والاحتياج المتبادل بين الصحافة وجمهورها الرئيسي، بالإضافة لجمهورها الساكن في القصر، والذي لم يعد يلتفت لها كثيرًا.
ولا يمكن أن نغفل أن جزءًا كبيرًا من أسباب هذه الأوضاع يعود لعدم اتخاذ أغلب المؤسسات الصحفية القرار السليم في الوقت المناسب، وذلك بالاستثمار الجاد في مواردها الصحفية، وفي أدوات تطويرها، وفي القنوات الجديدة لعرض محتواها رقميًّا.
*****
الواقع الآن يقول إن أغلب المؤسسات الصحفية أدارت ظهرها لنسختها المطبوعة، ولا تظهر في الأفق أي محاولات جادة لتنشيطها والاستفادة من سنواتها الأخيرة بأفضل صورة، مع تقديم نماذج محترفة للربط بين المطبوع والديجيتال.
ومازالت المؤسسات الصحفية قابعة في هذا البرزخ المخملي بين المطبوع والرقمي، وينتظر القائمون على إدارة هذه المؤسسات بصبر يُحسدون عليه من يتخذ القرار نيابة عنهم، فلا هم طوّروا ولا فتحوا المجال لمن يحمل رايات التطوير.
وللأسف، ليست المؤسسات وحدها من اتخذت هذا الخيار، ولكن الكثير من الصحفيين كأفراد أو كنقابة مازالوا قابعين في هذا البرزخ المتكاسل.
باختصار، المنظومة الصحفية كلها تقريبًا تسير وفقًا لمنطق أن الحديث عن التغيير يُغني عن فعل التغيير نفسه.
وكأن الخطوبة تُغني عن الزواج!!
*****
الطبيعي أن يواجه أغلب الزملاء الذين يعملون في النسخ الرقمية بداخل المؤسسات الصحفية منافسة شديدة مع أقرانهم في المؤسسات الأخرى؛ لكن هل منطقي أن تكون المنافسة مع زملائهم في نفس المؤسسة؟!
عندما بدأت أغلب المؤسسات الصحفية في التفكير بتطوير تواجدها على الإنترنت، ورغم بدايتها المتأخرة نسبيًّا كان أمامها اتجاهان: إما أن تطور مواردها الصحفية وتتبنى خطة ورؤية طموحة للتدريب والتطوير، فترسل بعضًا من فريق إدارة التحرير لشهر أو أكثر خارج مصر ليتطلع على التجارب العالمية الناجحة، وتقوم بتدريب البقية مرحليًّا، مع توفيق الأوضاع الإدارية والمالية وفقًا للتغيرات القادمة.
مع تأسيس فريق تقني قوي من مبرمجين ومصممين محترفين، يفهمون في الصحافة واحتياجاتها بقدر فهمهم في التقنية، لكي لا تجعل نفسها عُرضة لتجارب الهواة!
والاتجاه الآخر أن تديرها «بلدي» بترقيات شكلية دون أن تكون مرتبطة بتدريب وتأهيل مسبق أو حتى لاحق، أو الاتفاق على مهمة واضحة ووصف وظيفي، يحدد الأهداف والمسؤوليات والصلاحيات والإطار الزمني وطرق القياس.
ونتيجة لاعتماد السيناريو الأخير، رفض الكثير من الزملاء المحررين الميدانيين التعاون، بل إن بعضهم كان يخفي الأخبار ويمتنع عن إرسالها للزملاء المسؤولين عن تحرير الموقع الإلكتروني لصحيفته، لأنه لم يرَ أي فائدة مباشرة!
*****
فماذا فعلت المؤسسات الصحفية أمام هذه المشكلة؟
عوضًا عن تدريب وتأهيل الكوادر البشرية لديها، وتحفيزهم ماديًّا بزيادة بسيطة في حدود 10% - 20% على الراتب، نظير مهام إضافية سيقومون بها بعد مرحلة تدريبهم وتأهيلهم.
قامت هذه المؤسسات بتعيين محررين جدد للنسخ الإلكترونية، بالإضافة إلى المحررين القدامى في النسخ المطبوعة، وهكذا، أصبح لدى هذه المؤسسات فريقا عمل لنفس المؤسسة، يجلبان نفس المحتوى وإن كان بطرق مختلفة!
في الوقت الذي تبنت فيه الصحف في الخارج اتجاهًا معاكسًا تمامًا، بتعظيم العائد من مواردها البشرية، باستخراج محتوى أفضل من حيث الجودة وأكثر من حيث التنوع -مالتي ميديا- من نفس المحرر، لينشر عبر وسائط وقنوات متعددة!
وإذا كان من الممكن أن نتفهم هذا الوضع التبذيري العجيب بالنسبة للمؤسسات الحكومية، المكبلة بالروتين والتعقيدات، فما هي حجة المؤسسات الخاصة التي من المفترض أنها تحسب جيدًا لكل قرش تنفقه؟!
*****
على الأقل في الخمس سنوات المقبلة، يمكن أن نقول بثقة إن الصحافة المطبوعة والرقمية ستبقى كل منهما في احتياج للآخر، احتياج منطقي وليس عاطفيًّا، احتياج مبنيّ على سيناريوهات تعاون ونماذج ربحية.
فالصحافة الرقمية تحتاج من الصحافة المطبوعة الكفاءات العديدة الموجودة فيها، والتي بقصور ذاتي أو بإهمال مؤسساتي لم تستطع أن تنتقل بخبراتها ومهاراتها وكفاءتها المهنية للعصر الرقمي، فتتمكن من أدواته وقواعده، فتفيد وتستفيد.
تحتاج الصحافة الرقمية من المطبوعة أن تمدّ لها يد العون لترسيخ القواعد المهنية العريقة التي تعمل على تعزيز المصداقية، وهي أبرز النواقص في المواقع الإلكترونية، دون أن يوثر ذلك على سرعة وسيولة جريان محتوى الإنترنت ذي الطبيعة الخاصة.
وتحتاج الصحافة المطبوعة من الرقمية أن تساعدها في انتقال سلس تكاملي للعاملين في الصحف المطبوعة، كي يتمكنوا من الثقافة الرقمية، ويحدث بذلك الانتقال المحترف، لفائدة الجميع، قبل أن نُفاجأ بعشرات الآلاف من العاطلين، في الوقت الذي يمكن أن تستوعبهم الوسائط الرقمية الجديدة.
تحتاج الصحافة المطبوعة من الرقمية تبادلًا لأنماط متعددة من الاشتراكات والإعلانات، فتجذب شرائح المطبوع للنسخ الرقمية، وتعطي قيمة مضافة للمعلنين والمشتركين والقراء في كل من إصداراتها المطبوعة والرقمية، وبهذا تنقل بسلاسة قنوات ربحيتها للديجيتال.
*****
في عام 2011، بدأت صحيفة «نيويورك تايمز» تجني أولى ثمار خطتها الرقمية، والتي بدأت التخطيط لها قبل عامين، واعتمدت على مبدأ «الديجيتال يأتي أولًا»، مع تطوير المحتوى المطبوع وتعزيز جودته، والاتجاه نحو نماذج الاشتراكات الرقمية، فكانت النتيجة أن مشتركي النسخ المطبوعة ارتفعوا من 640 ألف نسخة عام 2000، إلى 820 ألفًا عام 2011، حسب تقرير «انوفيشن ميديا 2012».
وبعد تطبيق خطة «نيويورك تايمز» أصبح لديها مليون مشترك رقمي، 75% منهم من مشتركي النسخة المطبوعة، التي أعطتهم Access على النسخة الرقمية مجانًا، وقامت بعمل عروض خرافية لجلب مشتركين جدد لنسختها الرقمية، وصل سعر الاشتراك إلى 99 سنتًا في البداية، كعرض ترويجي جذاب.
الدروس المستفادة: يجب على المؤسسات أن تحافظ على جمهور الصحف المطبوعة أطول وقت ممكن، إن لم يكن باعتبارهم مصدر ربح واقعي وممسوك في اليد، فهم بالتأكيد يؤسسون لمصادر ربح مستقبلية، لأنهم يمثلون شريحة كبيرة لأولى مبادرات الدفع مقابل محتوى الإنترنت، وذلك بتشجيع من يشتري الصحف المطبوعة، أو بالأحرى أبنائه، على تجربة ما يُعرف بالمحتوى الرقمي المدفوع Paid Content، القادم لا محالة!
*****
وكما يقولون، ينتمي المستقبل للمؤسسات التي ترى مقدمات الفرص قبل أن تصبح واقعًا واضحًا للجميع.
ورغم أن الأخطاء التي ارتكبتها الجماعة الصحفية كبيرة، وبالتالي رحلة الرجوع وتصويب المسار صعبة وقاسية وفاتورتها كبيرة، لكنها مازالت ممكنة، شريطة أن تبدأ الآن.
يقول بيتر دراكر، أستاذ الاقتصاد الأمريكي، الذي كتب أكثر من 40 كتابًا في علوم الإدارة بالقرن الماضي: «لا يتعامل التخطيط طويل المدى مع القرارات المستقبلية، بل مع مستقبل القرارات الحالية».
فانظروا ماذا تقررون اليوم، وكيف سيكون أثر ذلك على مستقبلكم ومستقبل الصحافة.