(1)
الصحافة لا تعرف المشاعر
فأنت تسعى إلى سبق جريدتك أو موقعك بأي شكل من أجل المبيعات أو الترافيك الذي سيساهم في زيادة راتبك أو ترقيتك.
الصحافة وسط ملبد بالغيوم بالنسبة للشاب، فإما أن تقتل إبداعه وتضعه في بؤرة "النحت بضمير أو بدون"، أو تنمي فيه روح "الموهبة" لتضعه على ربوة "التميز".
وبالتالي فإن أي مادة صحفية دنيوية ستقدمها ستكون شاهدةً عليك ، ومثلما ستجازى عليه في الدنيا بمالٍ أو عقاب، ستُحَاسب عليه في الآخرة وفق ما قدمت يداك.
(2)
أتيت من عالم النوستالجيا إلى عالم الصحافة فصُنِّفَت موضوعات النوستالجيا والتاريخ تحت بند "الموضوعات النوعية"، ولم يشغلني الإسم بقدر إحساسي، فظننت أولاً أنها مجرد موضوعات تاريخ تعطي معلومة، حتى استوقفني حادث جعلني أنظر للمسألة من بعد آخر، وهو أني لست صحفياً في التقارير التاريخية، إنما أنا نوستالجي بالتاريخ ومندوب الأموات للأحياء، وبمجرد أن تنقضي مهمتي سأقابل الأموات الذين تكلمت عن تاريخهم حين يحاسبون على أفعالهم التي أرخت لها وأنا جنباً إلى جنب سأسْئَل على ما قلته في حق ماضيهم السحيق.
(3)
كنت أحب التاريخ من حيث القراءة، وشيئاً فشئياً عشقته كـ "عمل أشعر بكل شيء فيه"، أرى الزمن الذي أكتبه وأتفاعل معه، حتى دفعني حب التاريخ لمعاينة الأرض التي جرت عليها الأحداث، فذهبت إلى نهاية الشخصيات حيث القبور.
ومضيت في شارع الإمام الليث ورأيت قبر رياض باشا رئيس الوزراء وبجانبه قبر محمود سامي البارودي، ولوهلة قلت "البارودي نُفِي وشُرِّد بسبب ثورة كانت من مطالبها إقالة رياض باشا حتى فشلت الثورة وأمر رياض باشا بنفي العرابيين وعلى رأسهم عرابي" ، ثم سألت سؤالاً "كيف يشعر البارودي الآن بأنه مدفون بجانب من نفاه، وبماذا يحس رياض باشا وهو في قبر يجاور مدفن الرجل الذي نفاه"، لأجد نفسي أسألها "حين أموت .. ماذا سيكون موقفي في الآخرة إزاء ما كتبته من تاريخ عن رياض باشا والبارودي ؟".
تطورت المسألة أكثر لدي حين مررت بجانب قلعة الجبل فتذكرت أن مذبحة المماليك جرت هنا، فتساءلت يشعر محمد علي وهو مدفون في نفس المكان الذي سفك فيه دماء 1500 إنسان ؟.
(4)
تحولت النوستالجيا في عملي إلى معايشة يومية للموت، فأنا لا أتكلم إلا بالتاريخ، ولا أتجول إلا من أجل النوستالجيا، ولا أبحث عن شيء سوى النوستالجيا، فصرت إنساناً يعيش زمنا يحيا فيه كل الناس ولكنى أعيش في زمانين بزمن واحد، أعيش زمن الماضي على أرض الواقع ثم أدمج حنيني للماضي في حياتي بالواقع.
رأيت الموت في عملي حين شعرت أني بين الناس لكني لست معهم، فعشت ما فات من تاريخ ليس هروبا من الواقع ولا تحايلا على تركه، ولكن لأن الواقع لا يناهز جمال هذا العالم الذي أعيش فيه، رأيته عالماً يحيطه جمال الجلال من كل حدب وصوب، ويخيم أجواء جلال الجمال عليه ويغطيه.
(5)
رأيت الموت في عالمي كمدينة كاملة داخل العقل المجنون بعقلانية نسبية، عقل يحتوي على أفكارٍ ذات أسوار عالية شائقة شيقة والتى تحمل التعب الممتع، وسر الإمتاع أن المدينة التى داخل العقل يغلفها غلاف جوي من نوع خاص وهو النوستالجيا.
فرأيت في الكتب والوثائق والمخطوطات والجرائد القديمة والـ Word والـ PDF شوارع متداخلة في بعضها لكن لا أصاب فيها بالتيه، لأنى أعرف روائح التراب الذى على أرضية الشوارع فكيف يتسنى لى أن أتوه فى الشوارع.
تحسست الملامح لعالمي فرأيت البيوت فرعونية والقصور بطلمية والحدائق رومانية والمشربيات الأربسكية، وسط إضائة من بلورات سحرية تأخذك إلى سحر الحارة وما فيها من تكيات ومقاهي، ومنها وإليها أعيش فى عالم التاريخ بكل عصوره قديمة وحديثة، وبعض من المعاصرة التى لا تؤثر على الأصالة.
(6)
رأيت الموت في عملي كعالم ساحر فيه العز المتواضع الذي يعطي الحياة على استحياء مصحوبةً بسعادة وفرح.
رأيت الموت في عملي كعالم صاخب سر جماله في هدوء الصخب وكأنه مخدر مكون من رائحة البخور ومعها أستنشق هواءا عطرا ونسيما هادئا حتى أشعر بصهج صحراء الحروب، ثم أمتزج من الزحام المتناسق عبر مراحل التاريخ لأشعر بالدفء والأنُس مع من ماتوا عن طريق توثيقي لهم.
(7 ـ أخيرة)
القبور ليست كالنوستالجيا، فالنوستالجيا تاريخ يكتبه المنتصرون أو المنافقون ولذلك هو حمال أوجه، لكن المقابر هي الحقيقة الوحيدة الباقية في الدنيا الغرورة الكاذبة الفانية، وبالتالي أصعب شيء هو الوصول للحقيقة من قلب الخديعة الذي أكتب فيها ولها.
رأيت النوستالجيا سلاحاً أحمله فإما أن أقتل به أحداً أو أقتل نفسي به، غير أني وعيت أهم مبدأ في النوستالجيا التي تريني الموت في عملي، وكان المبدأ هو " نحن أبناء آدم .. أي أن منا أحفاد قابيل القاتل ومنا نسل هابيل المقتول وكلنا على عداء مع الشيطان .. فإما أن يقودنا الشيطان إلى نهاية قابيل أو خطيئة أبيه، وإما أن نجعل النوستالجيا سلاحاً في وجه الشيطان".