فتحت
مذبحة نيوزيلندا في حق مصلين مسلمين، صبيحة اليوم الجمعة، الحديث واسعًا عن ظاهرة
الإرهاب والتطرف في مجالها الإنساني الأوسع، ومن جوانبها، ظاهرة
اليمين المتطرف في الغرب، في المجالَيْن السياسي والاجتماعي.
وترتبط هذه الجريمة بظاهرة اليمين المتطرف في المجتمعات الغربية، والتي تُعتَبر واحدةً من أسوأ الظواهر المرتبطة بقضية العنصرية والتطرف التي بات من الواضح أن الإنسانية بالكامل، تعاني منها.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن الدراسات التاريخية، تخبرنا أن ما جرى اليوم، ليس بغريب على ثقافة هذه البلدان؛ حيث نيوزلندا وأستراليا، وغيرها من مناطق العالم القديم الموجودة في هذه البقعة من العالم، أسسها في الأصل، السجناء والمجرمون الذين كانت هذه المناطق التي كانت نائية، مكانًا لنفيهم من جانب حكومات الأماكن التي كانوا يسكنون فيها، في أوروبا، لاتقاء إجرامهم وأذاهم.
اليمين المتطرف في الغرب
وعندما وفد المستكشف البريطاني جيمس كوك إلى هذه المنطقة من العالم، في القرن الثامن عشر، وبدأ الأوروبيون في استعمارها؛ قاموا بارتكاب مجازر مماثلة لما قام به أقرانهم الذين ذهبوا إلى الأمريكيتَيْن في حق الهنود الحُمر والسكان الأصليين الآخرين؛ حيث أبادوا حضارات كاملة، مثل حضارة «المايا» التي كانت تستقر في المناطق التي توجد فيها بلدان أمريكا الوسطى حاليًا.
وكان الهنود الحمر في حالة أستراليا ونيوزيلندا، أي السكان الأصليون لهما، اسمهم: «الأبورجينز»، وللآن؛ فإن منهم بقايا يعاملون بأسوأ ألوان صور العنصرية التي يخرجهم بها الوافد الغربي الأبيض، من جنس البشر أساسًا!
وفي القرون الماضية التي تكرس فيها الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في مناطق العالم الجديد؛ الأمريكتَيْن وأستراليا ونيوزيلندا؛ ظهر ما يُعرَف بـ"عبئ الرجل الأبيض»، والذي يشير فيه الغرب إلى دوره - المفترَض - في نشر الحضارة وسط الشعوب المتخلفة، بينما الحقيقة أن الأمر مرتبط بأسوأ ظواهر العنصرية والتعالي العرقي في تاريخ الإنسانية.
فلا يظنن أحد أن تيار
اليمين المتطرف الذي بدأ يحصل على مقاعد في برلمانات وحكومات دول أوروبية مهمة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، بل وصار حاكمًا في المجر، بل وفي أكبر بلد في العالم، وهو الولايات المتحدة متمثلًا في الرئيس دونالد ترامب ذاته؛ لا يظنن أحد أنه ظاهرة وليدة أو آخذة في الارتقاء والصعود في العقدَيْن الأخيرَيْن، وإنما هي ظاهرة متأصلة في هذه المجتمعات.
ولكن بالنسبة للأجيال الحالية؛ فإنها تبدو «جديدة»، لكن المتخصصين يعلمون أن تراجعها واختفاؤهما، إنما هو الاستثناء. فالحربان العالميتان الأولى والثانية، ومن قبلها الحروب النابوليونية في أوروبا؛ كلها كانت نتيجة نقطة الإحساس المتعاظم بالتفوق العرقي لدى الشعوب الأوروبية.
وفي الحرب العالمية الثانية «1939- 1945م»؛ كان عشرات الملايين من الناس ضحية إحساس التفوق لدى الجنس الآري، ولم يكن أدولف هتلر سوى واجهة تنفيذية فقط لذلك. فجيوشه لم تكن بضعة آلاف لكي نقول إنهم طليعة منحرفة، وإنما كانت بالملايين، والمجتمع الألماني بالكامل تقريبًا كان يدعم «النازية».
اليمين المتطرف وقضية الهجرة
مثل أي تيار أو أيديولوجية؛ فإن هناك مقولات أساسية وقيم رئيسية تستند إليها مدارس اليمين المتطرف كلها، بجانب التعالي العرقي والإحساس بالتفوق القومي.
ومن بين ذلك كراهية الغرباء، واعتبار التواجد الأجنبي، غير الأبيض وغير المسيحي أو اليهودي، في الغرب، بمثابة تهديدٍ للحضارة الغربية، وللهوية الثقافية لهذه المجتمعات.
ومع ارتفاع وتيرة الهجرة من بلدان الشرق الأوسط، والعالمَيْن العربي والإسلامي، وقارة أفريقيا، إلى هذه المجتمعات، بعد اجتياح أزمات سياسية وأمنية واقتصادية/ معيشية عدة، للكثير من هذه البلدان في العقود الماضية، مثل أفغانستان والصومال، ومثل سوريا وليبيا، في مرحلة ما بعد الخريف العربي في 2011/2010م؛ فإن وتيرة الكراهية ضد المهاجرين تنامت بشكل مخيف.
ونقول: بشكل مخيف لأنه أوصل أو كاد، أحزابًا ورموزًا من هذه التيارات إلى الحكم في بلدان نووية مثل فرنسا والولايات المتحدة، وقوى هي الأكبر سيطرة على الاقتصاد العالمي، مثل ألمانيا وإيطاليا.
الإرهاب والتطرف والتحريض الإعلامي
وبطبيعة الحال؛ لا يمكن في هذا الإطار إغفال عاملَيْن على أكبر قدرٍ من الأهمية في تزكية الحالة التي أدت إلى مذبحة نيوزيلندا.
العامل الأول، هو جرائم العنف والإرهاب التي تزايدت على أيدي المهاجرين، والثاني، هو الخطاب التحريضي ضد المهاجرين، وضد الآخر، والذي يتم تداوله في وسائل إعلام، هي الأوسع انتشارًا على المستوى العالمي، كما في حالة تغريدات ترامب.
.......
......
وفي الأخير؛ فإن توصيف مذبحة نيوزيلندا، بصورة تقليدية، باعتبار أنها تعبير عن «الإسلاموفوبيا» المتنامية في المجتمعات «البيضاء» أو ما شابه، وبالتالي الوقوف على دواعي معالجةٍ مثل زيادة وتيرة الحديث عن قيم التسامح وقبول الآخر، في الإعلام والمناهج التعليمية؛ إنما هو توصيف قاصر.
فمن خلال الإشارات التاريخية السابقة؛ فإن هذه ثقافة متأصلة في هذه المجتمعات، وتطل برأسها من حين لآخر، بوتائر شدة مختلفة، أخذت أسوأ صورها في الحرب العالمية الثانية، ولكنها «كُتمت» فقط لبضعة سنوات، نتيجة الإجراءات العسكرية للتحالف الغربي الذي هزم اليابان وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، ولكنها طبيعة مجتمعات.
إن الحل الأوجأ لهذه المشكلات، هو معالجة مشكلات الأوطان التي يخرج منها هؤلاء المسلمون العرب اللاجئون.. إلخ، بحثًا عن حياة أفضل لكرامتهم الإنسانية، في مجتمعات عنصرية هي التي علَّمت الدواعش في الأصل، ثقافة قطع الرؤوس، كما قام الفرنسيون في الجزائر.. والصور موجودة، والتاريخ لا ينسى!