{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يعطينا صفات أخرى من صفات المؤمنين.. فبعد أن ابلغنا أن من صفات المؤمنين الايمان بالغيب واقامة الصلاة والانفاق مما رزقهم الله.. يأتي بعد ذلك الى صفات أخرى.
فهؤلاء المؤمنون هم: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي بالقرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى.. و(بما أنزل من قبلك) وهذه لم تأت في وصف المؤمنين إلا في القرآن الكريم.. ذلك أن الإسلام عندما جاء كان عليه أن يواجه صنفين من الناس.. الصنف الأول هم الكفار وهم لا يؤمنون بالله ولا برسول مبلغ عن الله.. وكان هناك صنف آخر من الناس.. هم أهل الكتاب يؤمنون بالله ويؤمنون برسل عن الله وكتب عن الله.
والإسلام واجه الصنفين.. لأن أهل الكتاب ربما ظنوا أنهم على صلة بالله.. يؤمنون به ويتلقون منه كتبا ويتبعون رسلا وهذا في نظرهم كاف.. نقول لا.. فالإسلام جاء ليؤمن به الكافر، ويؤمن به أهل الكتاب، ويكون الدين كله لله.
والله سبحانه وتعالى في كتبه التي أنزلها أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن اسمه وأوصافه.. وطلب من أهل الكتاب الذين سيدركون رسالته صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.. ولقد أعطى الله جل جلاله أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب حتى إنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.. بل كانت معرفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزمنه وأوصافه معرفة يقينية.. وكان يهود المدينة يقولون للكفار.. أَطَلَّ زمن رسول سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم.. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أول من حاربه وأنكر نبوته.. فأوصاف رسول الله عليه الصلاة والسلام موجودة في التوراة والانجيل.. ولذلك كان أهل الكتاب ينذرون الكفار بأنهم سيؤمنون بالرسول الجديد ويسودون به العرب.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
أي أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن مفاجئة لأهل الكتاب بل كانوا ينتظرونها.. كانوا يؤكدون أنهم سيؤمنون بها كما تأمرهم بها كتبهم.. ولكنهم رفضوا الايمان وأنكروا الرسالة عندما جاء زمنها.
ثم يقول سبحانه وتعالى: {وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} ونلاحظ هنا أن كلمة (وبالآخرة) قد جاءت.. لأنك اذا تصفحت التوراة التي هي كتاب اليهود، أو قرأت التلمود لا تجد شيئا عن اليوم الآخر.
فقد أخذوا الأمر المادي فقط من كتبهم.. والله تبارك وتعالى أكد الايمان باليوم الآخر حتى عرف الذين يقولون آمنا بالله وكتبه ورسله ولا يلتفتون الى اليوم الآخر أنهم ليسوا بمؤمنين.. فلو لم يجئ هذا الوصف في القرآن الكريم ربما قالوا إن الإسلام موافق لما عندنا.. ولكن الله جل جلاله يريد تصوير الايمان تصويرا كماليا بأن الايمان بالله قمة ابتداء والايمان باليوم الآخر قمة انتهاء.. فمن لم يؤمن بالآخرة وأنه سيلقى الله وسيحاسبه.. وأن هناك جنة ينعم فيها المؤمن، وناراً يعذب فيها الكافر يكون ايمانه ناقصا.. ويكون قد اقترب من الكافر الذي جعل الدنيا غايته وهدفه.
فالمؤمن يتبع منهج الله في الدنيا ليستحق نعيم الله في الآخرة.. فلو أن الآخرة لم تكن موجودة، لكان الكافر أكثر حظا من المؤمن في الحياة.. لأنه أخذ من الدنيا ما يشتهيه ولم يقيد نفسه بمنهج، بل أطلق لشهواته العنان.. بينما المؤمن قَيَّدَ حركته في الحياة طبقا لمنهج الله وتعب في سبيل ذلك. ثم يموت الاثنان وليس بعد ذلك شيء.. فيكون الكافر هو الفائز بنعم الدنيا وشهواتها. والمؤمن لا يأخذ شيئا. والأمر هنا لا يستقيم بالنسبة لقضية الايمان.. ولذلك كان الايمان بالله قمة الايمان بداية والايمان بالآخرة قمة الايمان نهاية.