محطات في حياة "عبد الرحمن الخميسي"
السبت 01/أبريل/2017 - 02:33 م
نورجيهان صلاح
طباعة
"قصة الخميسي هي قصة العاصفة التى هبت من الريف المصرى أيام القصر والاحتلال"، و"عبقرية الخميسي هى عبقرية الفلاح المصرى التى نضجت على نار الحرمان والمعاناة" ، جاء الخميسى من قريته إلى القاهرة ليعلن على الملأ أن "حسن ونعيمة" أهم من" روميو وجوليت"، وكان الأدب الشعبى وقتها محتقرا، وكانت الكتابة حكرا على أصحاب الأقلام الذهبية من أبناء الباشوات وحملة الدكتوراه ، لكن الخميسى القادم من القرية دون أن يكمل تعليمه كسر هذه القاعدة ، ومن لا شىء أصبح شيئاً عظيماً ، ومن الفقر واليتم والتشرد والضياع اعتلى عرش الأدب وترك لنا بعد رحيله الصوت الرخيم وأخذ الحنجرة الذهبية.
في الأربعينات، حيث السنوات الأولى من وجوده في القاهرة ، اشتغل الخميسي مدرسا ، وعاملا في محل بقالة، ومصححا في مطبعة، ومحصل بطاقات في ترام ، وجاب الريف مع فرقة " أحمد المسيري " الشعبية يرتجل لها النصوص ويمثل فيها ويؤلف لها الأغنيات ويلحنها، وما بين ضياع وضياع كانت كراسي مقاهي المدينة وأرائك الحدائق العامة فيها ملاذه وسريره، يضع رأسه في الليل على خشبها الخشن يسأل النجوم والنسيم الساري والصمت عما ينتظره في غده : " ماذا تريد الزعزع النكباء ؟ "
في السنوات الصعبة الأولى بالقاهرة أخذ الخميسي يرسخ مكانته كأحد الشعراء البارزين في كوكبة ضمت إبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل وعلى محمود طه، ممن أقاموا المدرسة الرومانسية في الشعر العربي.
وعلى مدى أكثر من عشر سنوات ( 1940 – 1950 ) تشكلت المرحلة الأولى الأكثر صخبا وثراء في حياة الخميسي، والتي أصبح في نهايتها كاتبا وشاعرا وقصاصا وصحفيا وإذاعيا شهيرا بعد أن قدمه للإذاعة محمد فتحي وأخذ يبث عبرها قصائده وبرامجه التي كان يؤلفها ويخرجها.
وكان "الخميسي" ، يحاول بذلك أن يتجاوز موضوع فصله من جريدة الجمهورية ، ويثبت للحياة ، وللجميع، ولنفسه أيضا ، أنه قادر مهما أغلقوا الأبواب أمامه ،على فتح نوافذ وأبواب أخرى.
كان منزل الخميسي دوما ممتلئا بنماذج مختلفة من البشر بدء من نجوم السينما مثل "أحمد مظهر ومحمود المليجي وعبد الحليم حافظ" ،والسندريلا ، مرورا بنجوم صاعدين حينذاك مثل عادل إمام ، وكتاب كبار مثل "الأستاذ محمد عودة ومحمود السعدني ويوسف إدريس "، ورجال سياسة ، انتهاء بأدباء وممثلين ومطربين.
وبعد وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مر "الخميسي" بأخر مرحلة هي مرحلة الهجرة، وشد رحاله وغادر مصر ضمن ما عرف بموجة " هجرة الطيور "، التي شملت محمود العالم، وأحمد حجازي، وأمير اسكندر، وأحمد عباس صالح، وعددا من كبار كتاب مصر هاجروا بعد وصول السادات للحكم ، ولم يبق للخميسي سوى الاغتراب ، ما بين روما وباريس وموسكو وبيروت وطرابلس وبغداد.
وفي أبريل 1987 رحل الخميسي بعد أن أوصي بدفنه في المنصورة مسقط رأسه، وأن يغرس بجوار مدفنه شجرة لأنه واثق تماما أنه سيعود عصفورا وحينئذ سيكون بحاجة إلى غصن ليطلق من فوقه أغنياته.
في الأربعينات، حيث السنوات الأولى من وجوده في القاهرة ، اشتغل الخميسي مدرسا ، وعاملا في محل بقالة، ومصححا في مطبعة، ومحصل بطاقات في ترام ، وجاب الريف مع فرقة " أحمد المسيري " الشعبية يرتجل لها النصوص ويمثل فيها ويؤلف لها الأغنيات ويلحنها، وما بين ضياع وضياع كانت كراسي مقاهي المدينة وأرائك الحدائق العامة فيها ملاذه وسريره، يضع رأسه في الليل على خشبها الخشن يسأل النجوم والنسيم الساري والصمت عما ينتظره في غده : " ماذا تريد الزعزع النكباء ؟ "
في السنوات الصعبة الأولى بالقاهرة أخذ الخميسي يرسخ مكانته كأحد الشعراء البارزين في كوكبة ضمت إبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل وعلى محمود طه، ممن أقاموا المدرسة الرومانسية في الشعر العربي.
وعلى مدى أكثر من عشر سنوات ( 1940 – 1950 ) تشكلت المرحلة الأولى الأكثر صخبا وثراء في حياة الخميسي، والتي أصبح في نهايتها كاتبا وشاعرا وقصاصا وصحفيا وإذاعيا شهيرا بعد أن قدمه للإذاعة محمد فتحي وأخذ يبث عبرها قصائده وبرامجه التي كان يؤلفها ويخرجها.
وقد أشار الدكتور السيد أبو النجا في كتابه " ذكريات صحفية " إلى أن جريدة المصري أجرت استفتاء في تلك السنوات تحت إشرافه الشخصي، تبين منه أن الخميسي كان أكثر الكتاب الصحفيين شهرة حينذاك.
وما لبثت الثورة أن تفجرت بعد شهور قليلة، وعقد عبد الناصر اجتماعا في جريدة المصري مع كبار كتابها، وكان من بينهم "الخميسي"، ولم يهمل عبد الناصر الواقعة فقال للخميسي : ألا تذكرني ؟ جئتك منذ شهور هنا ؟ ، فضحك الخميسي قائلا : وأنا كنت أعرف منين أنك ح تبقى زعيم ثورة ؟! .
وضاعف من طبيعة العلاقة المعقدة بين الثورة و"الخميسي"، أنه كان قد نشر مقالًا في مجلة الكاتب التي ترأس تحريرها طه حسين بعنوان " ما الذي يريده الشعب "، دعا فيه إلي عودة الحياة الديمقراطية ورجوع الجيش إلى الثكنات.
ثم اتضح موقف "الخميسي"بقوة حين أخذت الثورة في التضييق على حرية التعبير، ولم يجد الخميسي حيلة يعبر بها عن رأيه الحقيقي سوى كتابة مقال ظاهره مديح في الثورة وباطنها سخرية من الطابع العسكري للحكم ،إذ اختتم مقاله في جريدة المصري بعبارة غريبة هي " يا مهلبية يا ! ".
كانت العبارة مطلع أغنية شعبية رائجة لشكوكو حينذاك ! .
وبعد أيام ثلاثة وجد في مكتبه ضابطا يسأله عن المقال . فقال له : ماله ؟ . فأجابه الضابط : مقال عن الثورة ينتهي بعبارة " يامهلبية يا " ؟!
فأوضح الخميسي له : هذه غلطة مطبعية ! فقد قفزت العبارة بالخطأ من صفحة برنامج أغاني الإذاعة إلي نهاية المقال !.
وفي 24 يونيو 1953 ، بينما كان "الخميسي"،جالسا في محل الأمريكين الشهير بشارع سليمان باشا ،فوجيء بضباط من البوليس السياسي ،يتقدمون إليه ويفتشون حقيبته حيث ضبطوا فيها منشورا بعنوان " عد إلي بلادك يا فوستر دالاس " ، ومنشورا آخر من ثلاث ورقات بعنوان" الاستعمار في مصر "، ووفقا لملفات المباحث العامة التي نشرها المحامي "عادل أمين" فقد طالب الخميسي بإلغاء الأحكام العرفية، وبعد اعتقال دام ثلاث سنوات،خرج "الخميسي" إلي الحرية عام 1956 ، ولكنه وجد مصر أخرى غير التي عرفها ، بدون أحزاب ، بدون هامش للمعارضة .
سرعان ما التحق "الخميسي" صحفيا بجريدة الجمهورية وأخذ يكتب فيها ، ولكن سرعان ما فصلته السلطة في أبريل 1958 ، ثم تلا ذلك فصل مجموعة من كتاب الجريدة في 1964 كان على رأسهم "طه حسين" الذي كتب في يوليو 1964 ،يعقب على ذلك الإجراء بمرارة : " لقد استغنوا عن خدماتي ضمن عدد من المحررين" !.
وأدرك الخميسي الطابع المعقد لعلاقته بالثورة ، وأن عليه أن يشق لنفسه طريقا آخر بعيدًا عن الصحافة ، وفي السنوات ما بين 1958 حتى وفاة الزعيم عبد الناصر ، تبعثرت جهوده في كل اتجاه ، فأنشأ فرقة مسرحية " غرضها رفعة شأن المسرح العربي " ، وأخذ يؤلف ويمثل ويخرج لها .
ثم اتجه إلي السينما ، وأخرج أول أفلامه " الجزاء " عام 1965 ، وأعد مجموعة من الأوبريتات الغنائية منها " الأرملة الطروب " من تعريبه ، و " مهر العروسة " و " الزفة " من تأليفه ، وصار يكتب للإذاعة تمثيلياته " حسن ونعيمة " التي تحولت لفيلم ، و " البهلوان المدهش " وغيرها، وأقام شركة خاصة به للانتاج السينمائي ، بل وسجل عدة مقطوعات موسيقية من تأليفه منها "لومومبا " و" شارع الهرم " وغيرها ، بل وشارك بالتمثيل في فيلم " الأرض " ليوسف شاهين بدور مرموق ، وخلال ذلك تراجع اهتمامه بالشعر والقصة .
وما لبثت الثورة أن تفجرت بعد شهور قليلة، وعقد عبد الناصر اجتماعا في جريدة المصري مع كبار كتابها، وكان من بينهم "الخميسي"، ولم يهمل عبد الناصر الواقعة فقال للخميسي : ألا تذكرني ؟ جئتك منذ شهور هنا ؟ ، فضحك الخميسي قائلا : وأنا كنت أعرف منين أنك ح تبقى زعيم ثورة ؟! .
وضاعف من طبيعة العلاقة المعقدة بين الثورة و"الخميسي"، أنه كان قد نشر مقالًا في مجلة الكاتب التي ترأس تحريرها طه حسين بعنوان " ما الذي يريده الشعب "، دعا فيه إلي عودة الحياة الديمقراطية ورجوع الجيش إلى الثكنات.
ثم اتضح موقف "الخميسي"بقوة حين أخذت الثورة في التضييق على حرية التعبير، ولم يجد الخميسي حيلة يعبر بها عن رأيه الحقيقي سوى كتابة مقال ظاهره مديح في الثورة وباطنها سخرية من الطابع العسكري للحكم ،إذ اختتم مقاله في جريدة المصري بعبارة غريبة هي " يا مهلبية يا ! ".
كانت العبارة مطلع أغنية شعبية رائجة لشكوكو حينذاك ! .
وبعد أيام ثلاثة وجد في مكتبه ضابطا يسأله عن المقال . فقال له : ماله ؟ . فأجابه الضابط : مقال عن الثورة ينتهي بعبارة " يامهلبية يا " ؟!
فأوضح الخميسي له : هذه غلطة مطبعية ! فقد قفزت العبارة بالخطأ من صفحة برنامج أغاني الإذاعة إلي نهاية المقال !.
وفي 24 يونيو 1953 ، بينما كان "الخميسي"،جالسا في محل الأمريكين الشهير بشارع سليمان باشا ،فوجيء بضباط من البوليس السياسي ،يتقدمون إليه ويفتشون حقيبته حيث ضبطوا فيها منشورا بعنوان " عد إلي بلادك يا فوستر دالاس " ، ومنشورا آخر من ثلاث ورقات بعنوان" الاستعمار في مصر "، ووفقا لملفات المباحث العامة التي نشرها المحامي "عادل أمين" فقد طالب الخميسي بإلغاء الأحكام العرفية، وبعد اعتقال دام ثلاث سنوات،خرج "الخميسي" إلي الحرية عام 1956 ، ولكنه وجد مصر أخرى غير التي عرفها ، بدون أحزاب ، بدون هامش للمعارضة .
سرعان ما التحق "الخميسي" صحفيا بجريدة الجمهورية وأخذ يكتب فيها ، ولكن سرعان ما فصلته السلطة في أبريل 1958 ، ثم تلا ذلك فصل مجموعة من كتاب الجريدة في 1964 كان على رأسهم "طه حسين" الذي كتب في يوليو 1964 ،يعقب على ذلك الإجراء بمرارة : " لقد استغنوا عن خدماتي ضمن عدد من المحررين" !.
وأدرك الخميسي الطابع المعقد لعلاقته بالثورة ، وأن عليه أن يشق لنفسه طريقا آخر بعيدًا عن الصحافة ، وفي السنوات ما بين 1958 حتى وفاة الزعيم عبد الناصر ، تبعثرت جهوده في كل اتجاه ، فأنشأ فرقة مسرحية " غرضها رفعة شأن المسرح العربي " ، وأخذ يؤلف ويمثل ويخرج لها .
ثم اتجه إلي السينما ، وأخرج أول أفلامه " الجزاء " عام 1965 ، وأعد مجموعة من الأوبريتات الغنائية منها " الأرملة الطروب " من تعريبه ، و " مهر العروسة " و " الزفة " من تأليفه ، وصار يكتب للإذاعة تمثيلياته " حسن ونعيمة " التي تحولت لفيلم ، و " البهلوان المدهش " وغيرها، وأقام شركة خاصة به للانتاج السينمائي ، بل وسجل عدة مقطوعات موسيقية من تأليفه منها "لومومبا " و" شارع الهرم " وغيرها ، بل وشارك بالتمثيل في فيلم " الأرض " ليوسف شاهين بدور مرموق ، وخلال ذلك تراجع اهتمامه بالشعر والقصة .
وكان "الخميسي" ، يحاول بذلك أن يتجاوز موضوع فصله من جريدة الجمهورية ، ويثبت للحياة ، وللجميع، ولنفسه أيضا ، أنه قادر مهما أغلقوا الأبواب أمامه ،على فتح نوافذ وأبواب أخرى.
كان منزل الخميسي دوما ممتلئا بنماذج مختلفة من البشر بدء من نجوم السينما مثل "أحمد مظهر ومحمود المليجي وعبد الحليم حافظ" ،والسندريلا ، مرورا بنجوم صاعدين حينذاك مثل عادل إمام ، وكتاب كبار مثل "الأستاذ محمد عودة ومحمود السعدني ويوسف إدريس "، ورجال سياسة ، انتهاء بأدباء وممثلين ومطربين.
وبعد وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مر "الخميسي" بأخر مرحلة هي مرحلة الهجرة، وشد رحاله وغادر مصر ضمن ما عرف بموجة " هجرة الطيور "، التي شملت محمود العالم، وأحمد حجازي، وأمير اسكندر، وأحمد عباس صالح، وعددا من كبار كتاب مصر هاجروا بعد وصول السادات للحكم ، ولم يبق للخميسي سوى الاغتراب ، ما بين روما وباريس وموسكو وبيروت وطرابلس وبغداد.
وفي أبريل 1987 رحل الخميسي بعد أن أوصي بدفنه في المنصورة مسقط رأسه، وأن يغرس بجوار مدفنه شجرة لأنه واثق تماما أنه سيعود عصفورا وحينئذ سيكون بحاجة إلى غصن ليطلق من فوقه أغنياته.