صور.. "بوابة المواطن" تقتحم عالم التسول السري بشوارع الشرقية
الأربعاء 16/يناير/2019 - 05:00 م
أحمد محمود
طباعة
متسولون فى المدارس والجامعات، ونساء أرامل ومطلقات.. يزاحمونك في الشوارع والطرقات.. تراهم يوميًا يمدون أيديهم إليك قائلين "لله يا محسنين"، وبعضهم يتصنع أنه صاحب مرض أو عاهة مستديمة، تجعله غير قادر على العمل ويطلب المساعدة للعلاج حتى يستدر عطفك.. وبعضهن تحمل طفلا على كتفها وتدعى أنها تربى أيتاما، فصورهم عديدة وأشكالهم كثيرة، إنهم "مواطنون مهمشون" امتهنوا التسول وأصبحوا يملأون الشوارع ويقفون على نواصى الحارات ويزاحمونك فى وسائل المواصلات، وأعدادهم تتزايد بشكل كبير، بات يشكل خطرًا على المجتمع، فى ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية التى تشهدها البلاد خلال الفترة الراهنة.
إنها ظاهرة موجودة منذ زمن غير قصير، ولكنها تظهر وتختفي حسب النمو الاقتصادى، وبدأت تطفو على سطح المجتمع بشكل لافت للنظربنسب كبيرة وعدة أساليب وطرق جديدة؛ مما يسبب إزعاجًا لعامة الناس من كثرة وجود محترفى مهنة التسول.
أما عن أسباب انتشار تلك الظاهرة الرئيسية، فنلاحظ أن وجودها؛ بسبب ارتفاع نسبة البطالة ومعدلات الفقر وما تتعرض له الأسر ذات التعداد العالى، وقلة توفير المسكن والأمراض المزمنة المنتشرة، والإعاقات الخلقية المستديمة، والتشوهات التى يمتهن أصحابها التسول كأقصر وأسهل الطرق للحصول على المال.
اقتحمت "المواطن" العالم السرى لهؤلاء حيث تلاحظ أن أكثر أنواع التسول إنتشارا هو التسول المباشر الذي يتمثل بتواجد المتسولون فى الأماكن العامة مثل الجامعات والمدارس والمساجد والمستشفيات ومحطات القطار والمترو والأسواق والدوائر والمؤسسات الحكومية والتردد على المنازل لطلب المال والمواد التموينية أو السؤال عن زكاة رمضان والأعياد، حيث يوجد نوعان من مرتكبى تلك الأساليب منهم من يفعل ذلك لعدم قدرته على تدبير احتياجاته ونوع آخر يعتبرها مهنة يخرج منها بـ"سبوبة" نوعًا ما ! فكل تلك العوامل ساهمت فى انتشار تلك الظاهرة التى ازدادت تفاعلا يومًا تلو الآخر.
تقول "س.ك.م" 59 عًاما: "توفى زوجى منذ 10 سنوات ولدى ثلاثة أبناء تركونى وحيدة؛ نظرا للمسؤوليات الحياة التى تحاصرهم من زوجات وأبناء ومستلزمات معيشة، وشعرت أننى أصبحت عبئا ثقيلا عليهم، فى ظل سوء حالتى الصحية التى أجبرتنى على افتراش الرصيف سائلة أولاد الحلال عن المساعدة حتى أحصل على غذائى وقوت يومى متمنيتا من الله الستر والصبر على الشدة التى أعيشها صباح كل يوم.. وأحيانا أبيع المناديل الورقية والورد للمارة".
وأشارت السيدة الخمسينية فى حزن قائلة: "يوم فيه ويوم مفيش مبطلبش من ربنا غير إنه يحنن قلوب ولاد الحلال عليا؛ عشان أنا واحدة ست ومكسورة الجناح ومليش حد فى الدنيا كلها وأكتر حاجة بخاف منها إنى أموت لوحدى فى الشارع من غير ماحد يحس بيا".
أما "ع.ج.أ" 70 عامًا قال: كنت فى ذات يوم ارتدى معطفا نظيفا وكنت أعمل سائق سيارة خاصة لدى "باشا من باشاوات زمان" ولكنأصابتني أمراض صدرية أجبرتنى على صرف كل ما أملك من تحويشة العمر، أما عن جميع أقاربي تركونى وحيدا وتخلوا عني رغم أننى كنتأحن عليهم جميعًا ويساعدهم قبل أن تدور بى عجلة الزمان للأسوأ.. وتساءل: "هى الدنيا هتستنى إيه يعنى من راجل عجوز زيي رجليه واحدة فى الدنيا التانية فى القبر؟؟
واستكمل قائلا: لم يكن أمامي خيارا آخر سوى الجلوس فى الشارع على التطورات لطلب المساعدة من الناس لعل وعسى أجد فى قلوبهم الرحمة التى لم أجدها فى قلوب ابنائى، وأضاف: "انا اتعودت على قعدة الشارع وأخذت على المرمطه ولكنى مش شايل هم أى حاجه غير من أمطار الشتاء قارسة البرودة لأنها مبترحمش الغلابة اللى زيي عشان مش ليهم مكان يستخبوا فيه من صوت الرعد ومياه الأمطار وفى اللحظة دى بلجأ لأى مدخل عمارة أو تاندة محل احتمى فيها من البلل وبحسد كل إنسان قاعد فى بيته قدام الدفاية وبياكل وبيتفرج ع التليفزيون وعايش محترم، ولكن ممكن يكون حالى ده ابتلاء واختبار من ربنا يستاهل الحمد والشكر على كل شىء.
وفى السياق ذاته تلاحظ لنا أن المتسولين معظمهم من شريحة صغار السن الذين احتلوا فئة تمثيل الأغلبية فى ممارسة التسول كمهنة وأحيانا تستغل العصابات حاجة هؤلاء الصغار ويدخلونها أبواب الانحراف، حيث يجبرونهم على ممارسة الرذيلة وارتكاب الأعمال الإجرامية وارتكاب وقائع والنشل وبيع المواد المخدرة وتوصيلها.
وفى تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ومن داخل محطة قطار مدينة ههيا وجدنا صبى فى مقتبل العقد الثانى من العمر يدعى "كريم.ع.ح" 14 عاما، غارقا فى نومه بجانب شباك التذاكر، مرتديا ملابس ممزقة وبجواره كيس يحتوى بداخله على "بواقى طعام" أعطاه له أحد المسافرين قبل أن يستقل القطار، فأيقظناه فقام مضطربا من نومه فى يده كيسه باحثا عن حذائه بلهفة شديدة، قائلا فى خوف شديد: "إنتوا حكومة وهتحبسونى والله همشى يا باشا ومش جاى هنا تانى"، فما لبثنا أن هدأنا من روعه وأخبرناه أننا نجلس بجواره حينها لمساعدته وطلبنا منه أن يروى قصته مع التسول، فحكى قائلا: أنا من الصعيد وهربت من المنزل وجئت إلى هنا نظرا لكثرة الخلافات مع زوجة والدى "عشان قسيت عليا بعد أمى الله يرحمها ما ماتت"، وذات يوم سمعت اتفاقا بينها وبين والدى أنهم سيدخلوننى ملجأ أو إصلاحية ما دفعنى للهروب من المنزل وعزمت ألا أعود إليه مرة أخرى واستغليت تلك المحطة كمكان أحصل منه على عطف المارة والمسافرين.
من جانبه قال الشيخ محمد العرينى مدير الدعوة بمديرية الأوقاف بمحافظة الشرقية، إن التسول ظاهرة معاصرة منذ عهد سيدنا محمد وقد حاربها أيضا صلى الله عليه وسلم كما رواه حكيم: "سألت النبى فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته للمرة الثالثة، فقال إعلم يا حكيم أن المال خضرة حلوه فمن أخذه من طيب نفس بارك الله له فيه ومن أخذه بغير طيب نفس لم يبارك الله له فيه وكان كالنائحة تأكل ولا تشبع واعلم يا حكيم أن اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول".
وأشار بدران إلى أن الرسول رفع أيضًا درجات العمل أكثر من العبادة والقبوع داخل المساجد بدليل أنه حينما دخل مسجدًا رأى رجلا قابعا ليل نهار بداخله فسأل الرسول عنه الناس، فقالوا له كلنا نعوله يا رسول الله فقال لهم كلكم أعبد منه وفى رواية أخرى قالوا أخاه يعوله فقال أيضا أخاه أعبد منه، كما يمكن التعرف على مواصفات السائل الحقيقى وملامحه حتى لا يتم الوقوع فى خطأ الحرمان من الأجر والثواب بقول الله تعالى فى القرآن الكريم "لا يسألون الناس إلحافا" لأن السائل الحقيقى يستحي من السؤال فى طلب حاجته.
وأضاف بدران: يمكن التغيير والإصلاح من شأن الشخص الممارس لمثل تلك الأفعال، وأن نصنع منه إنسانا صالحا بالنصح والإرشاد وتقويم اعوجاجه والحسن إليه تارة أخرى لأننا حين نقومه نكون قد أحسنا إليه وأصلحنا فى مجتمعنا كما قال سيدنا محمد "ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من كسب يده وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده".
ويقول محمد حسين أستاذ علم الاجتماع، إن أسباب انتشار ظاهرة التشرد والتسول بهذا الشكل، عدة عوامل اجتماعية ترتبط بالتنشئةالاجتماعية بدءا من الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام ورفاق السوء وعجز المؤسسات الدينية والاجتماعية عن أداء دورها، موضحا أن ما تعانيه الأسرة من تفكك أو غياب أحد الأبوين أو سفره للخارج تعتبر عوامل تهدد البناء الأسرى وتساهم بشكل مؤثر وواضح فى التنشئة الاجتماعية السليمة بالإضافة لغياب الدور التربوي للمؤسسات التعليمية الذى يلعب دورا مهما في ظهور ونمو تلك المشكلة.
وأكد أنه يجب إتاحة فرصة لممارسة أنشطة مختلفة واستثمار وقت للطالب واستغلاله استغلالا أمثل؛ لأن غياب الدور المتوقع من تلك الأجهزة والمؤسسات من العوامل التى ساهمت فى انتشار التسول بالمجتمع المصرى، حيث إن معظمهم فئة عمرية لا تتعدى 6 أو 10 سنوات ويهربون من المدرسة ليمتهنون التسول وأحيانا يلجأ الأطفال للتسول إن عجزت الأسرة عن توفير متطلباتهم، وأحيانا أخرى يدفع الأب بأبنائه للتسول نظرا لأنه مريض أو عاجز ولا يجد مصدرا للدخل، كما يمكن تشكيل عصابة للتسول مقابل الغذاء أو وجود مأوى ومكان للمعيشة أو التسول عن طريق الإعاقة أى يقوم المتسول بطلب العطف والشفقة والرحمة من الناس أو ادعاء حاجته الضروريه للعلاج بالإضافة للتسول بقراءة القرآن الكريم والمدائح، حيث يقوم المتسول بقراءة ما تيسر من آيات فى المآتم وعن القبور والتسول بالألعاب والعروض البهلوانية، حيث يقوم المتسول بتقديم فقرات استعراضية تلفت انتباه المارة وتجذبهم نحوه ثم يجمع منهم المال مقابل الحركات الأكروباتية التي قدمها.
وأضاف حسين: كل تلك العوامل ساهمت فى انتشار تلك الظاهرة وتحويلها لمشكلة مجتمعية، وأصبح علاجها ينبغى أن يسعى المجتمع بأكمله توفير كل المقومات التى تحافظ على كيان الأسرة وبنائها بشكل يتيح تنشئة اجتماعية سليمة للنشء وتتوافق مع القيم النبيلة ومواكبة التغيرات المختلفة التى يتعرض لها المجتمع وإتاحة الفرصة أمام مؤسسات التنشئة الاجتماعية لأداء دورها التربوى من خلال المدرسة ووسائل الإعلام ودور العبادة وكذلك حرص الأسرة على تحديد واختيار ومراقبة أصدقاء أبنائهم لأن المرء على دين خليله.