"أشرف الطحان".. 4 سنوات كشفت المستور عن خط" بارليف"
الأحد 22/يناير/2017 - 09:41 ص
شروق أيمن
طباعة
أشرف فؤاد الطحان.. قصة لشاب مصري عاش في إسرائيل 4 أعوام؛ أمد خلالها المخابرات المصرية بأدق التفاصيل عن خط " بارليف" الحصين الذي اعتبرته إسرائيل أحد الحصون التي لا يمكن إزالتها؛ يأتي هذا متزامنا في نفس الوقت الذي غرق فيه جنرالات إسرائيل في نشوة النصر الذي حققوه في حرب 1967م، كان عشرات المهاجرين يتوافدون على إسرائيل بعد أن تأكدوا أن النصر لا رجعة فيه، وإن إسرائيل ستصبح جنة الله في الأرض كما وعدتهم الدعاية الصهيونية، وبمنتهى العناية والدقة كان الأمن الإسرائيلي يفحص أوراق الوافدون للتيقن من هوياتهم وجنسياتهم، ومن بين هؤلاء كان "دافى كرينهال " مهاجر سوفييتي نحيل الجسم وضعيف القوة يثير الشفقة بملابسه الرثة وحقيبته البالية وربما لهذا لم يعيره الأمن أي انتباه، ليتسلم بعدها أوراق إقامته في إسرائيل ويتم توزيعه مع المهاجرين الجدد الذين لا يمتلكون مهارة أو خبرة في مجال مهم إلى أحد المزارع أو "الكيبوتز" ليعملوا بالزراعة إلى أن يتم توفير فرصة عمل مناسبة لهم وهو مالا يحدث بالطبع.
ولمدة ثلاثة أشهر أخذ دافى يقص حكايته على زملائه المهاجرين، فهو يهودي سوفيتي اعتقل الحزب الشيوعي والده وهو في الحادية عشرة من عمره ولم يره مرة أخرى حتى توفيت والدته، وصحبه رجل يوغسلافي إلى تركيا وهناك ركب أحد السفن القادمة إلى إسرائيل ممنيا النفس بأن يحقق أحلامه في أرض الميعاد، وعاطف الجميع معه.
أشرف فؤاد الطحان.. شاب مصري، والده من أسرة مصرية بسيطة اقتطعت من قوت يومها لتعليم ابنهم الأكبر فؤاد،ليحصل على شهادة الهندسة أملا منهم أن يرفع من مستوى عائلتهم الاجتماعي، ويلتقي فؤاد بالأوكرانية "هيلجا بتروفا" ويرتبط الاثنان بقصة حب عنيفة لم يستطع والدها الذي يعمل في أحد الدواوين الحكومية المصرية أن يعرقلها، لتنتهي بزواج الاثنان، وكان أشرف ثمرة ذلك الزواج، ولم يكتب الله لفؤاد أن يرى ابنه قط. فمات في حادث أليم قبل ولادة إبنة بيوم واحد، وولد الطفل يتيما لا يعرف عن أبيه إلا تلك الصورة المعلقة في صالة "دارهم "والتي تعود أن يشاهد أمه يوميا وهى تبكى بجوارها، وحتى العاشرة من عمره تعود الطفل على أن يقضى الشتاء في كنف أمه وجده السوفيتي، والصيف في مصر مع عائلة أبيه، وهكذا نشأ الصبي وهو يجيد التعايش مع العادات السوفيتية والتحدث باللغة الروسية بلهجة أهل أوكرانيا، بالإضافة إلى عشقه لمصر وتحدثه باللغة العامية، وفى الحادية عشرة من عمره تتوفى والدته، ليأخذه جده إلى أوكرانيا خلسة بسبب تمسك أهل والده به، وهناك عانى الصبي بسبب فراق مصر وأهل أبيه، وأخذ في النحول والانطواء، وعندما كبر استطاع الهروب من القبضة الحديدية السوفيتية وظهر في الإسكندرية وذهب إلى منزل أهل والده، وكانت المفاجأة أن المنزل كان قد انهار دافنا معه كل أفراد الأسرة باستثناء إبنة عمه "وفاء" التي كانت تراسله أثناء وجوده في أوكرانيا وكان يكن لها حبا كبيرا، وأخذ يبحث عنها في كل مكان ولم يجدها بعد أن اختفت من الحي الذي نشأت فيه، واسودت الدنيا في وجهه وانتهى به الأمر وهو يتسول لقمته في المساجد، إلى أن تلقفته أيدى المخابرات المصرية.
دارت كل تلك المشاهد في رأس "دافى كرينهال" أو "اشرف فؤاد" وهو جالس في تلك السيارة التي تقله إلى تل أبيب، وبعد ساعة أو يزيد توقفت السيارة أمام مبنى كبير أنيق وانزله مرافقه منها في شيء من الصرامة وقاده إلى صالة المبنى الأنيق، وبعد دقائق فوجئ بامرأة أنيقة ممتلئة الجسم تقول له: أأنت "دافى كرينهال" ؟ تماما كما وصفوك، كانت تلك المرأة هي زوجة الجنرال "كوهين" أحد قادة الجيش الاسرائيلى، والتي طلبت إحضار دافى بعد ذيوع صيته وشهرته في تلك الفترة التي كان المجتمع الاسرائيلى غارقا في شهوة النصر، وجذبت الجميع أضواء الشهرة وحب الظهور،وأخذ كل منهم يبحث عن شيء جديد ليتفرد به ببن أقرانه، وفى مساء تلك الليلة تم إعداد" دافى " للحفل الذي تقيمه زوجة الجنرال، والذي يحضره زوجات الجنرالات الآخرين والجنرالات أنفسهم والذين لم يعيروا دافى أى انتباه على اعتبار أنه مجرد موضة وسوف تزول، وكان الانبهار يملأ "دافى "من داخله فقد كان كل ذلك قد أخبره به رجل المخابرات المصري "أمجد" منذ كان في القاهرة في أثناء فترة إعداده، مما أعطاه ثقة كبيرة، وراح يختلط بالحاضرين وجلس في وسط زوجات الجنرالات يستمع لأحاديثهم وهم في انتظار أن يلقى بأحد تنبؤاته، وفجأة راح في تلك الحالة التي كان يجيد تمثيلها، ونظر في اتجاه زوجة سكرتير وزير الصناعة وقال لها: قصة ميراث بلغاريا لا أساس لها من الصحة، وانطلق يخبرها عن الكثير من أحداث ماضيها والذي لا يعلمه أحد، ثم ختم حديثه بعبارة: ولكن زوجك يواجه خطرًا كبيرًا جدًا،ووسط ذهول الجميع اعترفت زوجة السكرتير بصحة كل ما قاله "دافى"،وفى صباح اليوم التالي وصلت إلى النائب العام الاسرائيلى كومة من الملفات والوثائق التي تثبت تورط سكرتير وزير الصناعة الاسرائيلى في وقائع فساد ورشوة واستغلال نفوذ، وكانت فضيحة كبرى في إسرائيل، وقنبلة انفجرت حول "دافى" الذي أصبح "العراف" الرسمي لجنرالات إسرائيل.
..زرعتة المخابرات المصرية وكان ضيفا علي حفلات جنرالات الجيش الإسرائيلي
جدير بالذكر أن كل النبوءات كانت من إعداد المخابرات المصرية التي نشرت شبكة كاملة حول "دافى" لتمده بكافة المعلومات التي يستطيع استغلالها بموهبته الفطرية في إلقاء النبوءات، بدءًا من نبوءة "راشيل ويارون" والتي تكبدت المخابرات المصرية المشقة في سبيل العثورعلى "يارون" وإقناعه أنهم أهل "راشيل"،وإجباره على توقيع الشيك والاعتذار، بالإضافة إلي حادثة المحراث التي دبرها عميل أخر كان يعاون "دافى" في نفس المزرعة، وانتهي بنبوءة سكرتير وزير الصناعة الذي كشفته المخابرات المصرية
ومع ذيوع صيت "دافى" أصبح ضيفًا دائمًا على حفلات جنرالات إسرائيل، وكان يسير بينهم في منتهى الحرية ويستمع بنفسه إلى أهم الأخبار والمعلومات ويقوم بنقلها مباشرة إلى القاهرة، حيث تستقبلها مجموعة خاصة مهمتها الأساسية تلقى المعلومات من المصدر الخطير الذي أمد القاهرة بمعلومات في غاية الدقة، ومع انتشاره في المجتمع الاسرائيلى كان من الطبيعي أن تهتم المخابرات الإسرائيلية به ،وهو ما كانت المخابرات المصرية تتوقعه وتم بالفعل اصطحاب "دافى" إلى مقر الموساد للتحقيق معه ومراجعة أوراقه بل وتم فحصه بجهاز كشف الكذب الذي كان قد تدرب على خداعه على يد رجال المخابرات المصرية،وجاءت النتيجة سلبية، مما أعطاه ثقة بلا حدود في المخابرات المصرية ،وتوطدت صلاته بالجنرالات وكبار المسئولين وتسابقوا في استضافتهم في منازلهم حتى أنه على مدار ثلاثة سنوات قضاها في إسرائيل من العام 1968 حتى 1973 لم يكن له مسكنا مستقلا، وفى أحد الأيام ألقي "دافى" بنبوءة أخرى على مسامع الجنرال "كوهين" حيث قال له: ستثبت جدارتك حقا في قيادة خط بارليف يا جنرال، ومع دهشة الجنرال وفرحته كانت المفاجأة عندما تلقى تكليف الوزارة له بقيادة الحصون الشمالية في خط بارليف، وهنا قام الجنرال كوهين باصطحاب "دافى" إلى منزله ليقيم هناك في حجرة صغيرة إقامة شبه دائمة.
..التقط صورا لخط "بارليف".. وأمد القاهرة بالمعلومات والرسائل من منزل جنرال مهم.
وتلقى الشاب رسالة من المخابرات المصرية أن يجهز نفسه للسفر إلى قبرص في خلال أسبوع، وعلى الرغم من تأكده التام أن الجنرال سيرفض أن يتركه ولو لمدة يوم واحد، إلا انه فوجئ بالجنرال نفسه يخبره أن يستعد للسفر في رحلة ترفيهية في نفس اليوم الذي حددته المخابرات المصرية، وعلل ذلك بأن أحد أصدقائه المهمين يمتلك شركة سياحية تدعى "ماجي تورز" ويريد أن يستضيف "دافى" لمدة أسبوع في رحلة إلى قبرص بغرض الدعاية بل وأعطاه ألف شيكل لينفقها على الرحلة هدية منه، ليتأكد "دافى" أنه يعمل مع جهاز مخابرات عبقري، وفى قبرص كانت المفاجأة عندما التقى برجل المخابرات المصرية "أمجد" شخصيا والذي أعطاه جهاز إرسال واستقبال وكتاب الشفرة والحبر السري والتعليمات الجديدة، وعاد "دافى" إلى إسرائيل مرة أخرى ليتخذ من منزل الجنرال كوهين مركز إرسال واستقبال للمعلومات والرسائل المشفرة، واستمر في عمله حتى كانت تلك الليلة في أواخر عام 1972م عندما استقبل رسالة شفرية من المخابرات المصرية تطلب منه القيام بشيء خطير.
وفى اليوم التالي وبينما كان الجنرال يحكى لزوجته المتاعب والصعوبات التي تواجهه على خط بارليف، وفى وجود" دافى" الذي يستمع ويخزن كل تلك المعلومات،في هذا اليوم فاجأ "دافى" الجنرال بسؤال غريب: "كيف يبدو خط بارليف من الداخل؟" ولصعوبة السؤال اندفع الجنرال يسأله في شك ؟ ولماذا تسأل ؟ هذه أمور سرية ؟، وهنا زاغ بصر "دافى" عند إلقاء النبوءات.
وانتفضت زوجة الجنرال من مقعدها وهى تسأله عما يعنيه وربط الجميع بين تلك النبوءة وبين سؤاله عن خط بارليف من الداخل ،إذن الجنرال كوهين سيدخل التاريخ بقيادته لخط بارليف، وأقنعت الزوجة الباحثة عن الشهرة زوجها بضرورة أن يصطحب "دافى" معه إلى داخل خط بارليف، لعله تأتيه نبوءة أخرى توضح الأمور،واقتنع الجنرال بدوره وتم تحديد موعد لكي يصطحب "دافى" معه، وكان هذا ما طلبته المخابرات المصرية حرفيًا من "دافى"، وهو محاولة الدخول إلى خط بارليف بأي طريقة،وفى الموعد المحدد في أوائل مارس 1973م كان جاهزا للذهاب مع الجنرال إلى خط بارليف بالسترة الجديدة ذات الأزرار الكبيرة، وكانت تلك السترة أهم شيء في رحلته العسكرية ؛ فبداخل أزرارها الكبيرة كانت تختفي آلة تصوير دقيقة تحوى ميكروفيلما خاصًا لالتقاط كل الصور الممكنة لخط بارليف من الداخل لكشف تفاصيل أقوي خط دفاعي عسكري عرفه التاريخ.
وذهب دافى إلى خط بارليف وتجول داخله بمنتهى الحرية بصحبة الجنرال ليلتقط كمية هائلة من الصور من كل الزوايا لكافة التحصينات الداخلية للخط المنيع وأحس الجنرال بالغيظ عندما لم يطلق "دافى" أى نبوءة في هذا اليوم؛ وبعد عودته سلم الميكروفيلم إلى عميل أخر قام بنقله إلى القاهرة؛ وراح الرجال يراجعون ويدرسون كل الصور الملتقطة ليتمكنوا في النهاية من صنع نموذج كامل ثلاثي الأبعاد لحصون خط بارليف، كما تمكن الجيش من إقامة وحداته بالحجم الطبيعي ليتدرب عليها رجال الصاعقة والكوماندوز انتظارا للحظة الحاسمة، واستمر دافى في أداء مهمته من داخل منزل الجنرال كوهين قائد الجبهة الشمالية لخط بارليف حتى أواخر عام 1973م، عندما استلم برقية من المخابرات تطلب منه مغادرة إسرائيل فورا، وأعطته رقم تليفون ليتصل به على الفور، وتم تحديد مكان للقاء داخل إسرائيل في نفس الليلة وهناك التقطته سيارة إلى مطار "بن جوريون" مباشرة ليركب واحدة من طائرات شركة العال الإسرائيلية؛ ضمن فوج سياحي من شركة "ماجي تورز" متجهة إلى روما، وهناك وجد "أمجد" في انتظاره ليستقلا طائرة إلى مصر مباشرة، ورغم حيرته وتساؤله عن تلك الطريقة البوليسية العاجلة لإنهاء مهمته وإخراجه من إسرائيل؛ إلا أن أمجد لم يعطيه الجواب الشافي بل عرفه هو بنفسه عندما اندلعت حرب أكتوبر بعد أسبوع واحد من وصوله إلى مصر.
لقد خافت المخابرات المصرية على عميلها أن ينكشف بعد الحرب عندما يبحث الإسرائيليين عن المصدر الذي سرب كل تلك المعلومات الخطيرة وآثروا إنهاء العملية حفاظا على حياة عميلهم، وفى القاهرة وجد "دافى" الذي عاد إلى اسمه الحقيقي ،"أشرف فؤاد الطحان" وجد كل الرعاية من المخابرات المصرية حتى أنهم أعطوه راتبه عن السنوات الأربع التي أمضاها في إسرائيل وشقة في أرقي أحياء القاهرة وسيارة ووظيفة جديدة، وأعطوه أيضا الجائزة الكبرى، ابنة عمه وفاء التي اختفت بعد انهيار منزل عائلته وبحثت عنها المخابرات المصرية حتى وجدت ما كان أشرف يعتبره حب عمره الضائع، لتثبت المخابرات المصرية مرة أخرى أنها لا تنسى أى رجل من رجالها الذين يضحون بحياتهم فداء للوطن الأعظم.
ولمدة ثلاثة أشهر أخذ دافى يقص حكايته على زملائه المهاجرين، فهو يهودي سوفيتي اعتقل الحزب الشيوعي والده وهو في الحادية عشرة من عمره ولم يره مرة أخرى حتى توفيت والدته، وصحبه رجل يوغسلافي إلى تركيا وهناك ركب أحد السفن القادمة إلى إسرائيل ممنيا النفس بأن يحقق أحلامه في أرض الميعاد، وعاطف الجميع معه.
أشرف فؤاد الطحان.. شاب مصري، والده من أسرة مصرية بسيطة اقتطعت من قوت يومها لتعليم ابنهم الأكبر فؤاد،ليحصل على شهادة الهندسة أملا منهم أن يرفع من مستوى عائلتهم الاجتماعي، ويلتقي فؤاد بالأوكرانية "هيلجا بتروفا" ويرتبط الاثنان بقصة حب عنيفة لم يستطع والدها الذي يعمل في أحد الدواوين الحكومية المصرية أن يعرقلها، لتنتهي بزواج الاثنان، وكان أشرف ثمرة ذلك الزواج، ولم يكتب الله لفؤاد أن يرى ابنه قط. فمات في حادث أليم قبل ولادة إبنة بيوم واحد، وولد الطفل يتيما لا يعرف عن أبيه إلا تلك الصورة المعلقة في صالة "دارهم "والتي تعود أن يشاهد أمه يوميا وهى تبكى بجوارها، وحتى العاشرة من عمره تعود الطفل على أن يقضى الشتاء في كنف أمه وجده السوفيتي، والصيف في مصر مع عائلة أبيه، وهكذا نشأ الصبي وهو يجيد التعايش مع العادات السوفيتية والتحدث باللغة الروسية بلهجة أهل أوكرانيا، بالإضافة إلى عشقه لمصر وتحدثه باللغة العامية، وفى الحادية عشرة من عمره تتوفى والدته، ليأخذه جده إلى أوكرانيا خلسة بسبب تمسك أهل والده به، وهناك عانى الصبي بسبب فراق مصر وأهل أبيه، وأخذ في النحول والانطواء، وعندما كبر استطاع الهروب من القبضة الحديدية السوفيتية وظهر في الإسكندرية وذهب إلى منزل أهل والده، وكانت المفاجأة أن المنزل كان قد انهار دافنا معه كل أفراد الأسرة باستثناء إبنة عمه "وفاء" التي كانت تراسله أثناء وجوده في أوكرانيا وكان يكن لها حبا كبيرا، وأخذ يبحث عنها في كل مكان ولم يجدها بعد أن اختفت من الحي الذي نشأت فيه، واسودت الدنيا في وجهه وانتهى به الأمر وهو يتسول لقمته في المساجد، إلى أن تلقفته أيدى المخابرات المصرية.
دارت كل تلك المشاهد في رأس "دافى كرينهال" أو "اشرف فؤاد" وهو جالس في تلك السيارة التي تقله إلى تل أبيب، وبعد ساعة أو يزيد توقفت السيارة أمام مبنى كبير أنيق وانزله مرافقه منها في شيء من الصرامة وقاده إلى صالة المبنى الأنيق، وبعد دقائق فوجئ بامرأة أنيقة ممتلئة الجسم تقول له: أأنت "دافى كرينهال" ؟ تماما كما وصفوك، كانت تلك المرأة هي زوجة الجنرال "كوهين" أحد قادة الجيش الاسرائيلى، والتي طلبت إحضار دافى بعد ذيوع صيته وشهرته في تلك الفترة التي كان المجتمع الاسرائيلى غارقا في شهوة النصر، وجذبت الجميع أضواء الشهرة وحب الظهور،وأخذ كل منهم يبحث عن شيء جديد ليتفرد به ببن أقرانه، وفى مساء تلك الليلة تم إعداد" دافى " للحفل الذي تقيمه زوجة الجنرال، والذي يحضره زوجات الجنرالات الآخرين والجنرالات أنفسهم والذين لم يعيروا دافى أى انتباه على اعتبار أنه مجرد موضة وسوف تزول، وكان الانبهار يملأ "دافى "من داخله فقد كان كل ذلك قد أخبره به رجل المخابرات المصري "أمجد" منذ كان في القاهرة في أثناء فترة إعداده، مما أعطاه ثقة كبيرة، وراح يختلط بالحاضرين وجلس في وسط زوجات الجنرالات يستمع لأحاديثهم وهم في انتظار أن يلقى بأحد تنبؤاته، وفجأة راح في تلك الحالة التي كان يجيد تمثيلها، ونظر في اتجاه زوجة سكرتير وزير الصناعة وقال لها: قصة ميراث بلغاريا لا أساس لها من الصحة، وانطلق يخبرها عن الكثير من أحداث ماضيها والذي لا يعلمه أحد، ثم ختم حديثه بعبارة: ولكن زوجك يواجه خطرًا كبيرًا جدًا،ووسط ذهول الجميع اعترفت زوجة السكرتير بصحة كل ما قاله "دافى"،وفى صباح اليوم التالي وصلت إلى النائب العام الاسرائيلى كومة من الملفات والوثائق التي تثبت تورط سكرتير وزير الصناعة الاسرائيلى في وقائع فساد ورشوة واستغلال نفوذ، وكانت فضيحة كبرى في إسرائيل، وقنبلة انفجرت حول "دافى" الذي أصبح "العراف" الرسمي لجنرالات إسرائيل.
..زرعتة المخابرات المصرية وكان ضيفا علي حفلات جنرالات الجيش الإسرائيلي
جدير بالذكر أن كل النبوءات كانت من إعداد المخابرات المصرية التي نشرت شبكة كاملة حول "دافى" لتمده بكافة المعلومات التي يستطيع استغلالها بموهبته الفطرية في إلقاء النبوءات، بدءًا من نبوءة "راشيل ويارون" والتي تكبدت المخابرات المصرية المشقة في سبيل العثورعلى "يارون" وإقناعه أنهم أهل "راشيل"،وإجباره على توقيع الشيك والاعتذار، بالإضافة إلي حادثة المحراث التي دبرها عميل أخر كان يعاون "دافى" في نفس المزرعة، وانتهي بنبوءة سكرتير وزير الصناعة الذي كشفته المخابرات المصرية
ومع ذيوع صيت "دافى" أصبح ضيفًا دائمًا على حفلات جنرالات إسرائيل، وكان يسير بينهم في منتهى الحرية ويستمع بنفسه إلى أهم الأخبار والمعلومات ويقوم بنقلها مباشرة إلى القاهرة، حيث تستقبلها مجموعة خاصة مهمتها الأساسية تلقى المعلومات من المصدر الخطير الذي أمد القاهرة بمعلومات في غاية الدقة، ومع انتشاره في المجتمع الاسرائيلى كان من الطبيعي أن تهتم المخابرات الإسرائيلية به ،وهو ما كانت المخابرات المصرية تتوقعه وتم بالفعل اصطحاب "دافى" إلى مقر الموساد للتحقيق معه ومراجعة أوراقه بل وتم فحصه بجهاز كشف الكذب الذي كان قد تدرب على خداعه على يد رجال المخابرات المصرية،وجاءت النتيجة سلبية، مما أعطاه ثقة بلا حدود في المخابرات المصرية ،وتوطدت صلاته بالجنرالات وكبار المسئولين وتسابقوا في استضافتهم في منازلهم حتى أنه على مدار ثلاثة سنوات قضاها في إسرائيل من العام 1968 حتى 1973 لم يكن له مسكنا مستقلا، وفى أحد الأيام ألقي "دافى" بنبوءة أخرى على مسامع الجنرال "كوهين" حيث قال له: ستثبت جدارتك حقا في قيادة خط بارليف يا جنرال، ومع دهشة الجنرال وفرحته كانت المفاجأة عندما تلقى تكليف الوزارة له بقيادة الحصون الشمالية في خط بارليف، وهنا قام الجنرال كوهين باصطحاب "دافى" إلى منزله ليقيم هناك في حجرة صغيرة إقامة شبه دائمة.
..التقط صورا لخط "بارليف".. وأمد القاهرة بالمعلومات والرسائل من منزل جنرال مهم.
وتلقى الشاب رسالة من المخابرات المصرية أن يجهز نفسه للسفر إلى قبرص في خلال أسبوع، وعلى الرغم من تأكده التام أن الجنرال سيرفض أن يتركه ولو لمدة يوم واحد، إلا انه فوجئ بالجنرال نفسه يخبره أن يستعد للسفر في رحلة ترفيهية في نفس اليوم الذي حددته المخابرات المصرية، وعلل ذلك بأن أحد أصدقائه المهمين يمتلك شركة سياحية تدعى "ماجي تورز" ويريد أن يستضيف "دافى" لمدة أسبوع في رحلة إلى قبرص بغرض الدعاية بل وأعطاه ألف شيكل لينفقها على الرحلة هدية منه، ليتأكد "دافى" أنه يعمل مع جهاز مخابرات عبقري، وفى قبرص كانت المفاجأة عندما التقى برجل المخابرات المصرية "أمجد" شخصيا والذي أعطاه جهاز إرسال واستقبال وكتاب الشفرة والحبر السري والتعليمات الجديدة، وعاد "دافى" إلى إسرائيل مرة أخرى ليتخذ من منزل الجنرال كوهين مركز إرسال واستقبال للمعلومات والرسائل المشفرة، واستمر في عمله حتى كانت تلك الليلة في أواخر عام 1972م عندما استقبل رسالة شفرية من المخابرات المصرية تطلب منه القيام بشيء خطير.
وفى اليوم التالي وبينما كان الجنرال يحكى لزوجته المتاعب والصعوبات التي تواجهه على خط بارليف، وفى وجود" دافى" الذي يستمع ويخزن كل تلك المعلومات،في هذا اليوم فاجأ "دافى" الجنرال بسؤال غريب: "كيف يبدو خط بارليف من الداخل؟" ولصعوبة السؤال اندفع الجنرال يسأله في شك ؟ ولماذا تسأل ؟ هذه أمور سرية ؟، وهنا زاغ بصر "دافى" عند إلقاء النبوءات.
وانتفضت زوجة الجنرال من مقعدها وهى تسأله عما يعنيه وربط الجميع بين تلك النبوءة وبين سؤاله عن خط بارليف من الداخل ،إذن الجنرال كوهين سيدخل التاريخ بقيادته لخط بارليف، وأقنعت الزوجة الباحثة عن الشهرة زوجها بضرورة أن يصطحب "دافى" معه إلى داخل خط بارليف، لعله تأتيه نبوءة أخرى توضح الأمور،واقتنع الجنرال بدوره وتم تحديد موعد لكي يصطحب "دافى" معه، وكان هذا ما طلبته المخابرات المصرية حرفيًا من "دافى"، وهو محاولة الدخول إلى خط بارليف بأي طريقة،وفى الموعد المحدد في أوائل مارس 1973م كان جاهزا للذهاب مع الجنرال إلى خط بارليف بالسترة الجديدة ذات الأزرار الكبيرة، وكانت تلك السترة أهم شيء في رحلته العسكرية ؛ فبداخل أزرارها الكبيرة كانت تختفي آلة تصوير دقيقة تحوى ميكروفيلما خاصًا لالتقاط كل الصور الممكنة لخط بارليف من الداخل لكشف تفاصيل أقوي خط دفاعي عسكري عرفه التاريخ.
وذهب دافى إلى خط بارليف وتجول داخله بمنتهى الحرية بصحبة الجنرال ليلتقط كمية هائلة من الصور من كل الزوايا لكافة التحصينات الداخلية للخط المنيع وأحس الجنرال بالغيظ عندما لم يطلق "دافى" أى نبوءة في هذا اليوم؛ وبعد عودته سلم الميكروفيلم إلى عميل أخر قام بنقله إلى القاهرة؛ وراح الرجال يراجعون ويدرسون كل الصور الملتقطة ليتمكنوا في النهاية من صنع نموذج كامل ثلاثي الأبعاد لحصون خط بارليف، كما تمكن الجيش من إقامة وحداته بالحجم الطبيعي ليتدرب عليها رجال الصاعقة والكوماندوز انتظارا للحظة الحاسمة، واستمر دافى في أداء مهمته من داخل منزل الجنرال كوهين قائد الجبهة الشمالية لخط بارليف حتى أواخر عام 1973م، عندما استلم برقية من المخابرات تطلب منه مغادرة إسرائيل فورا، وأعطته رقم تليفون ليتصل به على الفور، وتم تحديد مكان للقاء داخل إسرائيل في نفس الليلة وهناك التقطته سيارة إلى مطار "بن جوريون" مباشرة ليركب واحدة من طائرات شركة العال الإسرائيلية؛ ضمن فوج سياحي من شركة "ماجي تورز" متجهة إلى روما، وهناك وجد "أمجد" في انتظاره ليستقلا طائرة إلى مصر مباشرة، ورغم حيرته وتساؤله عن تلك الطريقة البوليسية العاجلة لإنهاء مهمته وإخراجه من إسرائيل؛ إلا أن أمجد لم يعطيه الجواب الشافي بل عرفه هو بنفسه عندما اندلعت حرب أكتوبر بعد أسبوع واحد من وصوله إلى مصر.
لقد خافت المخابرات المصرية على عميلها أن ينكشف بعد الحرب عندما يبحث الإسرائيليين عن المصدر الذي سرب كل تلك المعلومات الخطيرة وآثروا إنهاء العملية حفاظا على حياة عميلهم، وفى القاهرة وجد "دافى" الذي عاد إلى اسمه الحقيقي ،"أشرف فؤاد الطحان" وجد كل الرعاية من المخابرات المصرية حتى أنهم أعطوه راتبه عن السنوات الأربع التي أمضاها في إسرائيل وشقة في أرقي أحياء القاهرة وسيارة ووظيفة جديدة، وأعطوه أيضا الجائزة الكبرى، ابنة عمه وفاء التي اختفت بعد انهيار منزل عائلته وبحثت عنها المخابرات المصرية حتى وجدت ما كان أشرف يعتبره حب عمره الضائع، لتثبت المخابرات المصرية مرة أخرى أنها لا تنسى أى رجل من رجالها الذين يضحون بحياتهم فداء للوطن الأعظم.