ننشر كلمة وزير الخارجية بمؤتمر الحضارات القديمة في أثينا
الإثنين 24/أبريل/2017 - 11:48 ص
شربات عبد الحي
طباعة
ألقى سامح شكري وزير الخارجية صباح اليوم الإثنين، كلمة مصر أمام المؤتمر الوزاري الأول لتدشين منتدى الحضارات القديمة، الذي يعقد في العاصمة اليونانية أثينا بدعوة مشتركة من كل من وزير خارجية اليونان ووزير خارجية الصين.
وصرح المستشار أحمد أبو زيد المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، أن وزير الخارجية أكد خلال كلمته على ترحيب مصر بالمشاركة فى هذا الإطار الثقافي الجديد الذى يستجيب لتحديات المرحلة، كأداة للدبلوماسية الثقافية على الساحة الدولية، معربا عن تأييد مصر الكامل لهذه المبادرة وما سينبثق عن هذا المنتدى من أنشطة وفعاليات.
كما تناول الوزير في كلمته خطورة ظاهرة الإرهاب التي باتت تمثل تهديدًا مباشرًا لمسيرة الحضارة الإنسانية، مشيرًا إلى ما يشهده العالم من انتهاكات مفجعة لقدسية التراث الحضاري المشترك للإنسانية بكل ما يحتضنه من إبداعات خالدة ومعان سامية، مؤكدا أن العالم بات فى حاجة ماسة إلى العودة لجذور الحضارات القديمة ليستقي منها حكمة التاريخ عن ملامح مستقبل أكثر تحضرا وإنسانية.
وفيما يلى نص كلمة وزير الخارجية سامح شكرى، أمام المؤتمر الوزاى الأول لتدشين منتدى الحضارات القديمة:
السيد نيكوس كوتزياس وزير خارجية اليونان
السيد وانج يى وزير خارجية الصين
أصحاب السعادة، وزراء الخارجية وكبار المسؤولين والسفراء
السيدات والسادة
بداية لا يفوتنى التقدم بخالص الامتنان للحكومة اليونانية الصديقة، على التنظيم المتميز وحفاوة الاستقبال والضيافة.
اسمحوا لى أيها الصديقان العزيزان، وزيرا خارجية اليونان والصين، أن أوجه لكما كل ثناء لاختياركما السديد لتلك اللحظة الدقيقة التى يمر بها عالمنا بأزمة عميقة من الاضطراب الحضارى، لدعوة وزراء خارجية جمع مُنتقى من الدول المنتمية لأقدم الحضارات، التى تكن لها حركة التاريخ كل امتنان وعرفان، لنعلن معا اليوم إطلاق منتدى "الحضارات القديمة" من أثينا، تلك المدينة ملهمة الفلاسفة والحكماء، صانعة الديمقراطية فكرا وتطبيقا.
السادة الوزراء
يطيب لى أن أعبر عن مدى الترحيب الذى تُقبل به بلادى على المشاركة فى هذا الإطار الثقافى الجديد، الذى يستجيب ولا شك لتحديات تلك اللحظة الحرجة من تاريخ الإنسانية، فمن يكون أشد منا - نحن شعوب الحضارات التى صنعت التاريخ - تأثرا ورفضا لما تقترفه جحافل التطرف والإرهاب، كنتيجة مباشرة للسقوط الحضارى المشين، من امتهان دنىء للقيم الحضارية والكرامة الإنسانية، ومن عدوان بربرى على حريات وحقوق الشعوب فى العيش المستقر الآمن، وذلك فى استخفاف فج بمبادئ الحق والعدل؟ ناهينا عما نشهده من انتهاكات مفجعة لقدسية التراث الحضارى المشترك للإنسانية، بكل ما يحتضنه من إبداعات خالدة ومعان سامية وتراكم معارفى لا يُعوّض، فإذا ما أطلت علينا الحضارات القديمة فما يكون قولها عن الصراعات المذهبية والطائفية الدامية والحروب والاحتلال الأجنبى التى تُجرف أعز مواطن الحضارة الإنسانية؟
السيدات والسادة
إذ يبدو أن العصر الحديث، بل وفى تعبير أدق "عصر ما بعد الحداثة"، فى ضوء الثورة المعلوماتية المذهلة التى يعيشها القرن الحادى والعشرين، الذى يشهد صدامات سياسية واقتصادية وثقافية ودينية مُحزنة، بات فى حاجة ماسة إلى العودة لجذور الحضارات القديمة وأصالتها ليستقى منها حكمة التاريخ وعِبَرَ الزمان بحثا عن ملامح مستقبل أكثر تحضرا وإنسانية.
تلك هى الرسالة السياسية البليغة التى يوجهها هذا المنتدى الجديد إلى الإنسانية جمعاء، خاصة الأجيال الجديدة، إذ إنه بمجرد جمعه فى نسق واحد لأعرق ما جادت به الحضارات القديمة من معانى الرقى الإنسانى، فهو يسلط مباشرة الضوء على المفارقة شديدة الوطأة على العقل والوجدان بين مدى عظمة حضارات الماضى، وما حققته من تمازج تاريخى بديع فيما بينها عبر الزمان والمكان، وبين ما وصل إليه واقعنا اليوم فى أكثر من بقعة فى العالم من سقوط لمُثل الحضارة واندثار للقيم السامية.
فنحن الممثلون لهذا الجمع من الحضارات القديمة، علينا الالتزام بفحوى ما أوصت به حكمة التاريخ، بالعمل من خلال التحركات النشطة والإضافات القيمة المنتظرة من هذا المحفل الجديد، على تضافر جهودنا نحو تذكير العالم بأهمية رسالة التحضر والسلام والاستنارة التى يحملها هذا المنتدى للإنسانية، فضلا عما يجب أن يؤكد عليه المنتدى من أهمية الاستمرار فى التواصل الحضارى الممتد عبر الأجيال، حفاظا على تراث الإنسانية التليد وحمايته بكل ما يتوافر من السبل والإمكانات، لا سيما إبداعات التراث التى تقع فى مناطق النزاعات المسلحة.
السيدات والسادة
إن الحضارة تعبير يحمل وهجا إبداعيا ذاتيا، إذ يطلق على محصلة نجاح الإنسان فى الاستثمار الأمثل لحالة الاستقرار والأمان التى يعيش فيها، ليتفاعل بإيجابية مع الموقع الذى ينشط فيه مع غيره من أفراد مجتمعه، فضلًا عن البيئة المحيطة، ها هى إذن جملة العوامل التى تسمح بتفاعلها بإطلاق الطاقات الإنسانية الخلاقة إعمارا وإبداعا وإنماء، من ثم، فمهما تباينت السمات الشكلية للحضارات المتنوعة، فهى فى منتهاها تصب فى حضارة إنسانية عالمية واحدة، تبغى الارتقاء بالإنسان، غاية ووسيلة، فى كل زمان ومكان.
أليس هذا ما يمكن أن نستشفه من الكتابات على أوراق البردى المصرية واليونانية؟ أليس ذلك ما تلقيناه من الأهرامات المصرية والمكسيكية المتدرجة فى حضارات "الآزتيك" و"المايا" و"معابد الشمس والكبارى المعلقة" فى حضارات "الإنكا"؟ ألا تشهد عليه أيضا معابد "الكرنك" و"الأكروبول" و"مدرج الكولوسيوم" و"سور الصين العظيم" و"حدائق بابل المُعلقة"؟ فكل تلك الرموز الحضارية الشامخة إذا ما تحررت من إسار صمتها التاريخى، فهى لن تتحدث إلا بلغة "الإنسانية العالمية الواحدة".
السادة الوزراء
ليس من شك أن إشكاليات الإرهاب والتطرف بكل ما يقترن بتلك الظاهرة السرطانية من تداعيات سلبية، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، ستتصدر قائمة أولويات منتدانا الجديد، وقد آلت مصر على نفسها التصدى بكل قواها لقوى الظلام المحمومة، وفى الوقت الذى تجابه فيه الدولة المصرية بصلابة، التنظيمات التكفيرية، فهى على إيمان عميق بأن التصدى الأمنى للإرهاب يجب أن يقترن فى ذات الوقت بمعالجة حضارية وفكرية وثقافية، مُذكرين أنفسنا بمطلع ديباجة ميثاق منظمة اليونسكو:
"إذا كانت الحروب تبدأ فى عقول البشر، فيجب أن يبدأ فى عقول البشر بناء حصون السلام".
وانطلاقا من تلك الرؤية الحكيمة، تشهد بلادى فى تلك الآونة تحركا شاملا، يقوده الأزهر الشريف، منارة الوسطية والاعتدال فى العالم الإسلامى منذ أكثر من ألف عام، لإصلاح الخطاب الدينى والنهوض به، وتفنيد الافتراءات التى أُلصقــت عنوة بالدين الإسلامى، والتصدى لما افتُرى عليه من اتهامات زائفة وادعاءات ممجوجة.
وعلى أثر فاجعتى "عيد السعف" بمحافظتى الإسكندرية والغربية، تشكل "المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب"، من نخبة من أهل الرأى والفكر والعلم والثقافة والفنون ورجالات الدين الإسلامى والمسيحى، بغية حشد الطاقات وتضافر الجهود وتنسيق السياسات من أجل التصدى لأيديولوجيات الإرهاب والفكر الهدام وترسيخ أسس المواطنة والتسامح والتعددية والعيش المشترك، وغيرها من القيم الحضارية التى تجمعنا وتحرر عقول الشباب من الأفكار المسمومة وأزمات الهوية والتغريب التى تراهن عليها التيارات المتأسلمة المتطرفة، وقيادات اليمين المتطرف فى الغرب وغيرها من تحالف قوى الظلام المُعادى للتطور الحضارى للأمم.
السادة الحضور
أود أن أذكر بأن مصر سليلة تمازج حضارات خالدة، جمعت الأقدار بينهم فى لحظات تاريخية متفردة، الحضارة الفرعونية أولى الحضارات التى آمنت بالتوحيد، بكل ما يرمز إليه ذلك من بحث عن الحقيقة، والحضارة الإسلامية التى بشرت أولى آيات الذكر الحكيم "اقرأ" بفيضها المعارفى الجارف، والذى تحقق بالفعل لاحقا، وفى مصر نفسها هبط الوحى على موسى عليه السلام، وعاش عيسى عليه السلام وخرج منها فى رحلة العائلة المُقدسة، وتزاوجت وتداخلت وتعايشت تلك الحضارات والشواهد التاريخية الخالدة مع روافد حضارية أخرى فى الشرق الأوسط وأفريقيا، وحوض البحر المتوسط، جاعلة من مصر بوتقة انصهار إنسانية رائدة عصية على الانغلاق أو الانعزال.
السادة الوزراء والسادة الحضور
إننى على اقتناع أكيد بتعدد فرص التعاون والعمل المشترك بين أعضاء منتدى الحضارات القديمة، وترجمة رسالته لواقع ملموس. ولعل من أمثلة ذلك:
- التعاون من أجل صياغة منهج دولى يستحضر تراثنا الحضارى المشترك لمناهضة الإرهاب والعنف والتطرف، بما فى ذلك من خلال تكاتف الدبلوماسية الثقافية لدولنا للترويج لحق الشعوب فى التنمية والسلام والكرامة الإنسانية.
- مناقشة سُبل الربط بين إنجازات ومكتسبات حضاراتنا التليدة، وتحقيق أهداف التنمية المُستدامة 2030 باعتبارها أساس التوافق الدولى لإنهاض عالمنا المعاصر من عثراته المتعددة.
- تسليط الضوء على الدور المهم لحركة الهجرة والتدفقات البشرية التى لم تنقطع عبر التاريخ فى نقل الفنون والأدب واللغات والعلوم، وغيرها من مظاهر الإنتاج الثقافى والإنجاز الحضارى، فالعولمة ليست فرضا لقوالب نمطية قابلة للتعميم، ولكنها تفجير لطاقات التعددية والاختلاف التى تتماس مُستحضرة لسيرة تعايش حضاراتنا القديمة وما شهدته من تفاعلات بينية مهمة ومؤثرة.
- التنسيق فيما يتعلق بحماية المنقولات الثقافية من التهريب والاتجار غير المشروع، ودفع التعاون الدولى لإعادتها لدول المصدر، بما فى ذلك من خلال تقوية أطر حقوق الملكية الفكرية فى هذا المجال، فضلًا عن التعاون الفنى وتبادل الخبرات فى حفظ وترميم المواقع الأثرية والممتلكات الثقافية.
- التعاون والاستفادة المُتبادلة من تجارب تطوير الاقتصاد السياحى القائم على التراث الثقافى الثرى لدولنا، وكيفية توجيه ذلك لخدمة جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
- كما أرى فرصة سانحة لمحافل تتيح التفاعل على مستوى الشعوب، وتُوجد حيزا للحوار المباشر بين الشباب، والعلماء، والفنانين، والإعلاميين، وكل الأطراف التى لديها القدرة على تعظيم الاستفادة من قواسمنا المشتركة، واستدعائها لعالمنا المعاصر.
السادة الوزراء
خلاصة القول، أن "منتدى الحضارات القديمة"، ذلك النسق الذى يستمد خصوصيته من التداخل القائم بين عمق التاريخ ومتغيرات الحاضر، يمكن أن يمثل أداة مهمة للدبلوماسية الثقافية ومنظورا جديدا للتعامل مع قضايا عالمنا المعاصر، وبما يمكن من تحقيق التمازج بين التصورات المختلفة المقترحة فى نطاقه، بغية التوصل إلى رؤى مبتكرة جديدة قادرة على المساهمة فى استيعاب تحديات العصر.
وأؤكد لكم تأييد مصر الكامل لهذا المحفل، واعتزامها المشاركة النشطة فى بلورة الأنشطة المشتركة التى ستنبثق عنه، ونتطلع تحت القيادة اليونانية الصينية، للمبادرة لبلورة خطة طموح لعمل هذه المبادرة، بما يسهم فى دفعها نحو آفاق رحبة تتيح تحقيق الرخاء والصالح المشترك للأسرة الدولية بأسرها.
وصرح المستشار أحمد أبو زيد المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، أن وزير الخارجية أكد خلال كلمته على ترحيب مصر بالمشاركة فى هذا الإطار الثقافي الجديد الذى يستجيب لتحديات المرحلة، كأداة للدبلوماسية الثقافية على الساحة الدولية، معربا عن تأييد مصر الكامل لهذه المبادرة وما سينبثق عن هذا المنتدى من أنشطة وفعاليات.
كما تناول الوزير في كلمته خطورة ظاهرة الإرهاب التي باتت تمثل تهديدًا مباشرًا لمسيرة الحضارة الإنسانية، مشيرًا إلى ما يشهده العالم من انتهاكات مفجعة لقدسية التراث الحضاري المشترك للإنسانية بكل ما يحتضنه من إبداعات خالدة ومعان سامية، مؤكدا أن العالم بات فى حاجة ماسة إلى العودة لجذور الحضارات القديمة ليستقي منها حكمة التاريخ عن ملامح مستقبل أكثر تحضرا وإنسانية.
وفيما يلى نص كلمة وزير الخارجية سامح شكرى، أمام المؤتمر الوزاى الأول لتدشين منتدى الحضارات القديمة:
السيد نيكوس كوتزياس وزير خارجية اليونان
السيد وانج يى وزير خارجية الصين
أصحاب السعادة، وزراء الخارجية وكبار المسؤولين والسفراء
السيدات والسادة
بداية لا يفوتنى التقدم بخالص الامتنان للحكومة اليونانية الصديقة، على التنظيم المتميز وحفاوة الاستقبال والضيافة.
اسمحوا لى أيها الصديقان العزيزان، وزيرا خارجية اليونان والصين، أن أوجه لكما كل ثناء لاختياركما السديد لتلك اللحظة الدقيقة التى يمر بها عالمنا بأزمة عميقة من الاضطراب الحضارى، لدعوة وزراء خارجية جمع مُنتقى من الدول المنتمية لأقدم الحضارات، التى تكن لها حركة التاريخ كل امتنان وعرفان، لنعلن معا اليوم إطلاق منتدى "الحضارات القديمة" من أثينا، تلك المدينة ملهمة الفلاسفة والحكماء، صانعة الديمقراطية فكرا وتطبيقا.
السادة الوزراء
يطيب لى أن أعبر عن مدى الترحيب الذى تُقبل به بلادى على المشاركة فى هذا الإطار الثقافى الجديد، الذى يستجيب ولا شك لتحديات تلك اللحظة الحرجة من تاريخ الإنسانية، فمن يكون أشد منا - نحن شعوب الحضارات التى صنعت التاريخ - تأثرا ورفضا لما تقترفه جحافل التطرف والإرهاب، كنتيجة مباشرة للسقوط الحضارى المشين، من امتهان دنىء للقيم الحضارية والكرامة الإنسانية، ومن عدوان بربرى على حريات وحقوق الشعوب فى العيش المستقر الآمن، وذلك فى استخفاف فج بمبادئ الحق والعدل؟ ناهينا عما نشهده من انتهاكات مفجعة لقدسية التراث الحضارى المشترك للإنسانية، بكل ما يحتضنه من إبداعات خالدة ومعان سامية وتراكم معارفى لا يُعوّض، فإذا ما أطلت علينا الحضارات القديمة فما يكون قولها عن الصراعات المذهبية والطائفية الدامية والحروب والاحتلال الأجنبى التى تُجرف أعز مواطن الحضارة الإنسانية؟
السيدات والسادة
إذ يبدو أن العصر الحديث، بل وفى تعبير أدق "عصر ما بعد الحداثة"، فى ضوء الثورة المعلوماتية المذهلة التى يعيشها القرن الحادى والعشرين، الذى يشهد صدامات سياسية واقتصادية وثقافية ودينية مُحزنة، بات فى حاجة ماسة إلى العودة لجذور الحضارات القديمة وأصالتها ليستقى منها حكمة التاريخ وعِبَرَ الزمان بحثا عن ملامح مستقبل أكثر تحضرا وإنسانية.
تلك هى الرسالة السياسية البليغة التى يوجهها هذا المنتدى الجديد إلى الإنسانية جمعاء، خاصة الأجيال الجديدة، إذ إنه بمجرد جمعه فى نسق واحد لأعرق ما جادت به الحضارات القديمة من معانى الرقى الإنسانى، فهو يسلط مباشرة الضوء على المفارقة شديدة الوطأة على العقل والوجدان بين مدى عظمة حضارات الماضى، وما حققته من تمازج تاريخى بديع فيما بينها عبر الزمان والمكان، وبين ما وصل إليه واقعنا اليوم فى أكثر من بقعة فى العالم من سقوط لمُثل الحضارة واندثار للقيم السامية.
فنحن الممثلون لهذا الجمع من الحضارات القديمة، علينا الالتزام بفحوى ما أوصت به حكمة التاريخ، بالعمل من خلال التحركات النشطة والإضافات القيمة المنتظرة من هذا المحفل الجديد، على تضافر جهودنا نحو تذكير العالم بأهمية رسالة التحضر والسلام والاستنارة التى يحملها هذا المنتدى للإنسانية، فضلا عما يجب أن يؤكد عليه المنتدى من أهمية الاستمرار فى التواصل الحضارى الممتد عبر الأجيال، حفاظا على تراث الإنسانية التليد وحمايته بكل ما يتوافر من السبل والإمكانات، لا سيما إبداعات التراث التى تقع فى مناطق النزاعات المسلحة.
السيدات والسادة
إن الحضارة تعبير يحمل وهجا إبداعيا ذاتيا، إذ يطلق على محصلة نجاح الإنسان فى الاستثمار الأمثل لحالة الاستقرار والأمان التى يعيش فيها، ليتفاعل بإيجابية مع الموقع الذى ينشط فيه مع غيره من أفراد مجتمعه، فضلًا عن البيئة المحيطة، ها هى إذن جملة العوامل التى تسمح بتفاعلها بإطلاق الطاقات الإنسانية الخلاقة إعمارا وإبداعا وإنماء، من ثم، فمهما تباينت السمات الشكلية للحضارات المتنوعة، فهى فى منتهاها تصب فى حضارة إنسانية عالمية واحدة، تبغى الارتقاء بالإنسان، غاية ووسيلة، فى كل زمان ومكان.
أليس هذا ما يمكن أن نستشفه من الكتابات على أوراق البردى المصرية واليونانية؟ أليس ذلك ما تلقيناه من الأهرامات المصرية والمكسيكية المتدرجة فى حضارات "الآزتيك" و"المايا" و"معابد الشمس والكبارى المعلقة" فى حضارات "الإنكا"؟ ألا تشهد عليه أيضا معابد "الكرنك" و"الأكروبول" و"مدرج الكولوسيوم" و"سور الصين العظيم" و"حدائق بابل المُعلقة"؟ فكل تلك الرموز الحضارية الشامخة إذا ما تحررت من إسار صمتها التاريخى، فهى لن تتحدث إلا بلغة "الإنسانية العالمية الواحدة".
السادة الوزراء
ليس من شك أن إشكاليات الإرهاب والتطرف بكل ما يقترن بتلك الظاهرة السرطانية من تداعيات سلبية، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، ستتصدر قائمة أولويات منتدانا الجديد، وقد آلت مصر على نفسها التصدى بكل قواها لقوى الظلام المحمومة، وفى الوقت الذى تجابه فيه الدولة المصرية بصلابة، التنظيمات التكفيرية، فهى على إيمان عميق بأن التصدى الأمنى للإرهاب يجب أن يقترن فى ذات الوقت بمعالجة حضارية وفكرية وثقافية، مُذكرين أنفسنا بمطلع ديباجة ميثاق منظمة اليونسكو:
"إذا كانت الحروب تبدأ فى عقول البشر، فيجب أن يبدأ فى عقول البشر بناء حصون السلام".
وانطلاقا من تلك الرؤية الحكيمة، تشهد بلادى فى تلك الآونة تحركا شاملا، يقوده الأزهر الشريف، منارة الوسطية والاعتدال فى العالم الإسلامى منذ أكثر من ألف عام، لإصلاح الخطاب الدينى والنهوض به، وتفنيد الافتراءات التى أُلصقــت عنوة بالدين الإسلامى، والتصدى لما افتُرى عليه من اتهامات زائفة وادعاءات ممجوجة.
وعلى أثر فاجعتى "عيد السعف" بمحافظتى الإسكندرية والغربية، تشكل "المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب"، من نخبة من أهل الرأى والفكر والعلم والثقافة والفنون ورجالات الدين الإسلامى والمسيحى، بغية حشد الطاقات وتضافر الجهود وتنسيق السياسات من أجل التصدى لأيديولوجيات الإرهاب والفكر الهدام وترسيخ أسس المواطنة والتسامح والتعددية والعيش المشترك، وغيرها من القيم الحضارية التى تجمعنا وتحرر عقول الشباب من الأفكار المسمومة وأزمات الهوية والتغريب التى تراهن عليها التيارات المتأسلمة المتطرفة، وقيادات اليمين المتطرف فى الغرب وغيرها من تحالف قوى الظلام المُعادى للتطور الحضارى للأمم.
السادة الحضور
أود أن أذكر بأن مصر سليلة تمازج حضارات خالدة، جمعت الأقدار بينهم فى لحظات تاريخية متفردة، الحضارة الفرعونية أولى الحضارات التى آمنت بالتوحيد، بكل ما يرمز إليه ذلك من بحث عن الحقيقة، والحضارة الإسلامية التى بشرت أولى آيات الذكر الحكيم "اقرأ" بفيضها المعارفى الجارف، والذى تحقق بالفعل لاحقا، وفى مصر نفسها هبط الوحى على موسى عليه السلام، وعاش عيسى عليه السلام وخرج منها فى رحلة العائلة المُقدسة، وتزاوجت وتداخلت وتعايشت تلك الحضارات والشواهد التاريخية الخالدة مع روافد حضارية أخرى فى الشرق الأوسط وأفريقيا، وحوض البحر المتوسط، جاعلة من مصر بوتقة انصهار إنسانية رائدة عصية على الانغلاق أو الانعزال.
السادة الوزراء والسادة الحضور
إننى على اقتناع أكيد بتعدد فرص التعاون والعمل المشترك بين أعضاء منتدى الحضارات القديمة، وترجمة رسالته لواقع ملموس. ولعل من أمثلة ذلك:
- التعاون من أجل صياغة منهج دولى يستحضر تراثنا الحضارى المشترك لمناهضة الإرهاب والعنف والتطرف، بما فى ذلك من خلال تكاتف الدبلوماسية الثقافية لدولنا للترويج لحق الشعوب فى التنمية والسلام والكرامة الإنسانية.
- مناقشة سُبل الربط بين إنجازات ومكتسبات حضاراتنا التليدة، وتحقيق أهداف التنمية المُستدامة 2030 باعتبارها أساس التوافق الدولى لإنهاض عالمنا المعاصر من عثراته المتعددة.
- تسليط الضوء على الدور المهم لحركة الهجرة والتدفقات البشرية التى لم تنقطع عبر التاريخ فى نقل الفنون والأدب واللغات والعلوم، وغيرها من مظاهر الإنتاج الثقافى والإنجاز الحضارى، فالعولمة ليست فرضا لقوالب نمطية قابلة للتعميم، ولكنها تفجير لطاقات التعددية والاختلاف التى تتماس مُستحضرة لسيرة تعايش حضاراتنا القديمة وما شهدته من تفاعلات بينية مهمة ومؤثرة.
- التنسيق فيما يتعلق بحماية المنقولات الثقافية من التهريب والاتجار غير المشروع، ودفع التعاون الدولى لإعادتها لدول المصدر، بما فى ذلك من خلال تقوية أطر حقوق الملكية الفكرية فى هذا المجال، فضلًا عن التعاون الفنى وتبادل الخبرات فى حفظ وترميم المواقع الأثرية والممتلكات الثقافية.
- التعاون والاستفادة المُتبادلة من تجارب تطوير الاقتصاد السياحى القائم على التراث الثقافى الثرى لدولنا، وكيفية توجيه ذلك لخدمة جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
- كما أرى فرصة سانحة لمحافل تتيح التفاعل على مستوى الشعوب، وتُوجد حيزا للحوار المباشر بين الشباب، والعلماء، والفنانين، والإعلاميين، وكل الأطراف التى لديها القدرة على تعظيم الاستفادة من قواسمنا المشتركة، واستدعائها لعالمنا المعاصر.
السادة الوزراء
خلاصة القول، أن "منتدى الحضارات القديمة"، ذلك النسق الذى يستمد خصوصيته من التداخل القائم بين عمق التاريخ ومتغيرات الحاضر، يمكن أن يمثل أداة مهمة للدبلوماسية الثقافية ومنظورا جديدا للتعامل مع قضايا عالمنا المعاصر، وبما يمكن من تحقيق التمازج بين التصورات المختلفة المقترحة فى نطاقه، بغية التوصل إلى رؤى مبتكرة جديدة قادرة على المساهمة فى استيعاب تحديات العصر.
وأؤكد لكم تأييد مصر الكامل لهذا المحفل، واعتزامها المشاركة النشطة فى بلورة الأنشطة المشتركة التى ستنبثق عنه، ونتطلع تحت القيادة اليونانية الصينية، للمبادرة لبلورة خطة طموح لعمل هذه المبادرة، بما يسهم فى دفعها نحو آفاق رحبة تتيح تحقيق الرخاء والصالح المشترك للأسرة الدولية بأسرها.