ا.د محمد الغنام يكتب .. تجليات القرآن الكريم على اللغة العربية
الثلاثاء 17/ديسمبر/2024 - 05:01 م
اد محمد الغنام
اختار الله تعالى من بين كل اللغات والألسنة اللغة العربية لتكون الوعاء الآمن لتربية الإحسان التي تحمل الحقائق الإلهية في الكتاب العزيز إلى الإنسانية كلها. ومن الطبيعي أن يكون ذلك الاختيار قد تم لحكمة تتصل بطبيعة الرباط الوثيق بين محتوى التربية القرآنية والوسيلة أو الأداة التربوية المتمثلة في اللغة العربية، ومدى صلاحية هذه الوسيلة لتوصيل تلك الحقائق التربوية القرآنية، بما تحمله من إعجاز وقدرة على تجسيد هذا الإعجاز دون مختلف لغات وألسنة البشر، حيث جاءت التربية القرآنية تربية مستقيمة بحكم الاندماج العضوي بين حقيقتها الإلهية وصفتها العربية " قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" [الزمر: 28].
فقد جاءت (الصفة) العربية وكأنها طبيعة ثانية لتلك التربية بعد الطبيعة الإلهية المطلقة وأصبح وصف القرآن بالكمال (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) مقترنا بوصفه العربي، بل إن هذا الوصف العربي يأتي ملتصقاً بالقرآن قبل وصف الكمال، وكأن العربية باعتبارها( صفة) من صفات القرآن الجوهرية جزءٌ مكملٌ لكماله.
وإذا كان الوحي هو الوسيلة الإلهية التي أوصلت القرآن من الله إلى الرسول (صلي الله عليه وسلم)، فإن العربية ستبقى بعد توقف الوحي وختام النبوة هي الوسيلة الإلهية التاريخية الدائمة والمستمرة لتوصيل الحقيقة التربوية القرآنية إلى سائر البشر "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [يوسف: 2]، فعن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) مشجعاً أصحابه تعليم العربية لما لها من فضل "تعلموا العربية ، وحسن العبارة، وتفقهوا في الدين" كما يقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) "تعلموا العربية فإنها تزيد المروءة "
ويقول شيخ الإسلام بن تيمية:" إن العربية من الدين ومعرفتها فرض وواجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرضٌ ولا يُفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"
كما يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "وإنما يعرف فضل القرآن من عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة وعلم العربية وعلم البيان ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقالاتها في مواطن افتخارها ورسائلها".
ويؤكد الثعالبي هذه الحقيقة بقوله: "... والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداةٌ للعلم ومفتاحُ التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزند للنار، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر في جلائها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن وزيادة البصيرة في إثبات النبوة الذي هو عمدة الإيمان لكفى بهما فضلا تحسن فيهما أثره ويطيب في الدارين ثمره، فكيف وأيسر ما خصها الله عز وجل به من ضروب الممادح يكلِّ أقلام الكتبة ويتعب أنامل الحسبة"
و يُعَدُ النص المقدس في ذاته محفوظاً بالعهد الإلهي { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وحفظ الذكر وهو القرآن الكريم إنما هو صونه عن التغيير والتبديل، وأنه لا يعتريه زيادة ولا نقصان ولا تحريف في كل الأوقات.
وما يزال القرآن محفوظاً على هذا الحد حتى على ألسنة المسلمين غير الناطقين بالعربية ممن يرتلون القرآن على وفق قواعد التجويد وأصول التلاوة فيؤدونه كما يؤديه القراء المجيدون حتى دون أن يكون من يرتلونه يعرفون العربية.
وأما العربية فهي لسان الذكر، فالقرآن عربي نزل {بلسان عربي مبين} النحل 103، ونزل على سنن العرب في كلامها، نزل بلسان الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولسان قومه إذ كانوا عرباً فكان القرآن بلسانهم ليفهموه لا يلتبس عليهم شيء منه، وهو عربي بالآيات المتواترة على وجه الإثبات(يوسف/2)(النحل/103)(طه/113)(الشعراء/195الزمر /28) (فصلت /3،44) (الشورى /7) (الزخرف/3)، وهو عربي بالنص الصريح وليس أعجمياً
وإذا كانت اللغة العربية بهذه المكانة فإن القرآن منها بمنزلة القلب من الجسد، فهذا الذي بلغت به اللغة العربية القمة وتميزت على جميع لغات أهل الأرض، بل تستعصي على الضعف والهرم: إن أسلوب القرآن الكريم يعد في غاية الفصاحة والبلاغة، فقد أدهشت بلاغته الشعراء والخطباء، فقالوا عنه مرة أنه سحر، ومرة أنه شعر وثالثة أنه كهانة، ورابعة أنه أساطير الأولين، ولما هَمَّ بعض السفهاء بمعارضته جاءوا بسخف من القول ممجوج .
يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "وحجتي إن الله تعالى قد أنزل عليّ كتاباً عربياً مبيناً تعرفون ألفاظه وتفهمون معانيه، إلا أنكم لا تَقْدرون أن تأتوا بمثله ولا بعشر سور منه، ولا بسورة واحدة ولو جهدتم جهدكم واجتمع معكم الجن والإنس"(تفسير الماتريدي /م6/ص573)، علماً بأنهم قوم هم أرجح أهل زمانهم عقولاً وأكملهم معرفة وأجزلهم رأياً وأثقبهم بصيرة .
فاللغة العربية في تربية الإحسان من العقيدة ومن ثم تصبح معرفتها فرضاً وواجباً؛ لأن فهم الكتاب والسنة فرضٌ ، وما لا يتم الفرض الواجب إلا به فهو واجب، ومن ثم فالموضوعية العلمية تملي على راسمي وواضعي السياسات التعليمية في البلاد العربية والاسلامية ضرورة الاهتمام بدراسة واقع ومستقبل تعليم اللغة العربية وقدسية دراستها وتدريسها في جميع مناهج التعليم بجميع مراحله ونوعياته وأن يأخذوا رسالتها الدينية بعين الاعتبار وذلك لما لها من أثر ملموس في حياة العرب والمسلمين ولما لها من أثر في حياتهم حاضراً ومستقبلاً .
لقد أفادت اللغة العربية أقصى إفادة ممكنة من هذا الدين ، وذلك لأن القرآن الكريم حفظ لهذه اللغة مكانتها، وارتقى بها في جميع الميادين، ولم يكن هذا الارتقاء ممكناً بدونه.
فسلام على لغة القرآن في عيدها المجيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ا.د محمد الغنام
استاذ التربية الاسلامية - كلية التربية بنين - جامعة الأزهر بالقاهرة
تجليات القرآن الكريم على اللغة العربية
الكلمات المفتاحية
موضوعات متعلقة
أخبار تهمك
