دراسة حول الأسباب والنتائج.. الثأر سرطان يتوغل في الصعيد
السبت 27/أكتوبر/2018 - 05:08 م
محمود المنشاوي
طباعة
"دبّت الحيوية أرجاء السوق وتغيّر لون الهواء ليصبح غبارًا جرّاء ركوض العديد من الأشخاص مع ارتفاع صيحات السيدات، لينفرد المشهد 3 أشخاص يُظهر احمرار أعينهم شدة غضبهم، وتزدحم في أيديهم الأسلحة البيضاء مختلفة الأحجام، وبينهم رجلًا لا يستطيع الوقوف على قدميه، تكسوه الدماء، مخاطبين تجمعات الأهالي التي أرادت الدفاع عن المسكين الذي غرق في دمائه بعد طعنات الأسلحة: ابعدوا عنّا نأخذ ثأر أبينا ممن غدر به".
يقول أحمد أبو طالب، موظف من أهالي طامية، إن ما يسبَّبه الإنسان لغيره من معاناة تحوَّل حياته إلي جحيم متواصل، فتهدم كل بناء وتقف أمام التنمية بشتى أنواعها، إنها كارثة الثـأر، والتي تعد أخطر شيء في الحياة، والتي ظلت مسيطرة على محافظات صعيد مصر التي تحيا ليل ونهار تؤججها ريح الأصالة وتذكيها رائحة التمسك بالعقيدة، فهو دائما ما يعكر صفو هذه الحياة الوادعة بأصوات الرصاص التي تشق سكون الليل ونواح وعويل يملأ الأفق.
يروي أبو طالب، أن رجلًا قتل أمام أعين العشرات من الأشخاص في سوق أحد قرى مركز طامية، منذ بضع سنوات يتذكرها الآن أمام عينيه، ومؤكدًا أن المتواجدين في السوق ابتعدوا عن الدفاع عن الرجل بعد معرفتهم بأنها ليست مشاجرة، وأنها أخذ ثأر.
ويشير إلى أنه رأى ذلك، لكنه سمع قصص كثيرة، وعايش مشكلة الثأر بين جيرانه، وفي القرى المجاورة له بمركز طامية، وأنها ظاهرة خطيرة وتضر بالكثير وليس أطراف النزاع فقط، مبينًا أن الثأر معناه المطالبة بدم القتيل والطلب بثأره، وهو الوجه الآخر لهيبة العائلة وكرامتها داخل مجتمعها، وأن العائلة بجميع أفرادها مسئولة عن الأخذ بالثأر.
وخلال الـ 5 سنوات الأخيرة، شهدت محافظة الفيوم في مختلف قراها ومراكزها، 8 حالات ثأر، في تطور كبير وانتشار واسع للظاهرة في محافظة الفيوم، والتي تشتهر بالسلام وتبتعد عن عصبية الصعيد.
ولم نستطع أن نرصد أرقامًا دقيقة حول إحصائية عدد حالات ظاهرة الثأر في محافظة الفيوم بشكل دقيق، إلا أنه في الأيام الأخيرة شهدت المحافظة تزايد في الانتشار مقارنة بالفترة القريبة الماضية.
ويقول فتحي حسان، أحد أهالي مركز سنورس، إن الثأر سيظل موجودًا، ولن تتوقف العائلات عن أخذ الثأر لأفرادها، طالما أن القانون لا يتدخل بشكل حازم.
ويضيف حسان، أنه عاصر مشكلات كثيرة حول الثأر، ورأى نزاع عائلات تضرر منها أناس بعيدين عن المشكلة من الأساس، مبينًا أنه رأى حادثة لمقتل أحد الأشخاص في مشاجرة بقرية سنهور، وتم حبس أفراد المشاجرة، إلا أن عائلة المجني عليه، قرروا الثأر بأحد أقارب الجاني، رغم أنه لم يكن في المشاجرة وليس له صلة سوى القرابة من الأساس.
أسباب انتشار ظاهرة الثأر
ويقول محمد محمود صالح، محاضر تنمية بشرية واجتماعي، إن ظاهرة الثأر انتشرت بشكل كبير في محافظة الفيوم، في الفترة الأخيرة مقارنة بالسنين الماضية، وأنها أصبحت في القرى والمراكز والمدينة والأحياء أيضًا، مبينًا أنه من فترة قريبة حدثت حادثة قتل، بدافع الثأر في أحد أحياء بندر الفيوم، لافتًا أن الظاهرة تجوب كل مناطق المحافظة.
ويؤكد صالح، أن هناك أسباب عدة منها اجتماعي وأخر تربوي وثقافي، فالمجتمع الآن هو من يساهم في انتشار تلك الظاهرة، فلا يوجد دور كبير وواضع في هيئة قصور الثقافة وفرع ثقافة الفيوم، كما أن التربية والتعليم دورها غير مؤثر ولا يوجد لها أي نشاط توعوي، مبينًا أنه من الحتمل أن يكون أحد أفراد إحدى الحالات ربما يكون معلمًا.
ويضيف صالح، أن هناك عنف بين الطلبة في المدارس، وبين الأشقاء وبعضهم في المنازل، وبين الزملاء وبعضهم في العمل، وسواء كان العنف بسيط أو كبير، هو في الأخير يولد مشكلة الثأر، والثأر هنا بالمعنى العام، في رغبة كل فرد في أخذ حقه بيده وبدون الرجوع لمؤسسة تحكم وتفصل.
ظاهرة تخلّف متعددة الأبعاد
"عندما نتحدث عن الثأر فنحن نتحدث عن ظاهرة تخلف مركبة ومتعددة الأبعاد، يتداخل فيها البعد السياسي الذي يقدم الولاء للقبيلة والعائلة على الولاء للدولة والمجتمع، والبعد الاقتصادي الذي تتحول فيه الصراعات الطبقية الاقتصادية إلى صراعات عائلية دامية، والبعد الديني الذي يعلي من شأن الجزاء والعقوبة وقيم القصاص والانتقام القبلية على قيم المواطنة وحكم القانون والتسامح، والبعد الاجتماعي الذي تسوده قيم الذكورة والسلطوية والتمييز بين الناس على أساس مدرج من الانتماءات يتعالى بعضها على بعض، والبعد النفسي التربوي لمواطن ينشأ بعيدا عن قيم الحداثة والمواطنة ومجتمعات الحرية وألمساواة والإخاء" هكذا يقول عصام الزهيري، كاتب ومفكر إسلامي.
المجتمع يساعد على انتشار الظاهرة بإعجابه بمرتكبيها
ويضيف الزهيري، أن هناك البعد القانوني الذي يتوقف عليه التعامل المباشر والعلاج الفوري مع الظاهرة، وكبيئة قانونية مصرية من الواضح أنه لم يترعرع فيها بعد مفهوم التعامل مع الثأر كجريمة منظمة، وملاحقة مرتكبيها كما تلاحق مافيات العنف والإرهاب، لايزال مجتمعنا يبدي للأسف الشديد لونا من الإعجاب الباطني والقابلية للتعاطي مع جرائم الثأر ومرتكبيه، ويقوي هذا الاتجاه الانفصام القانوني الذي وقع مع سيطرة اتجاهات السلفية وجماعات الإسلام السياسي، بما وضع القانوني المدني المصري في كفة، وشرائع القبيلة المستوردة من مجتمعات الخليج المتأخرة، وهي شرائع تلصق كذبا وزورا بالإسلام وجناية عليه.
الثأر من منظور اجتماعي
لم يوضح متخصصين علم الاجتماع، أن ما يحدث وأن ظاهرة الثأر لأسباب قد تكون شخصية أو جماعية، لذلك لا يوجد سبب واحد يمكن ربطه بكل حوادث الثأر لكنها إجمالًا تكون بين عائلات وقد يشتعل نتيجة علاقة بين شاب وفتاة من عائلتين لا تنال رضي الكبار، حتى الخلافات العادية قد تتسبب في معارك كبيرة أيضًا بين العائلات، منها على سبيل المثال أسبقية الري أو المرور بين سيارتين، أو شجار بين أطفال في القرية أو الخلافات العادية بين الجيران، كما أن العائلات التي بينها نسب أو علاقات مصاهرة تكون من أكثر الحالات المعرضة لحوادث الثأر. وفى أحيان أخرى تؤدى حوادث القتل الخطأ إلى ثأر عائلي فمثلا يصدم شخص بسيارته أحد أفراد عائله أخرى وهذا حادث يحدث عشرات المرات يوميا فيتحول إلى ثار أو إطلاق نيران في زفاف للاحتفال ويقتل واحدا فيتحول إلى ثار أو سبب أدهى وهو وجود شخص من عائله ثالثه ويقتل بالخطأ في ثار ليس له ذنب فيه من بعيد أو قريب فتتحول العائلة الثالثة للثار وهكذا تتوارث العائلات الثار حتى وان كان ليس لهم دورا فيه ولكن القدر وضعهم في طريق الثار.
حكم الثأر في الإسلام
تؤكد دار الإفتاء المصرية، على أن الإسلام حرص أشدَّ الحرص على حماية الحياة الإنسانية، وجعل صيانتها من حيث هي مَقْصِدًا شرعيًّا، وحَرَّم الاعتداء عليها، وتَوَعَّد المعتديَ بالوعيد الشديد؛ فالإنسان بنيان الله تعالى في الأرض، مَلعونٌ مَن هَدَمه.
وأكدت أنه لا يجوز الأخذ بالثأر إلأ من شخص تعمد قتل آخر بقصد، ولا يؤخذ الثأر من قتل خطأ أو دون تعمد.
ولي الأمر من يأخذ الثأر
كما أن هناك مفسدة أخرى في ممارسة عادة الثأر بشكل عام، وهي التعدي والافتيات على ولي الأمر في شيء من صلاحياته التي رتبها له الشرع وفوضه فيها دون غيره، وهو الاختصاص باستيفاء العقوبات.
والافتيات على ولي الأمر بوجه عام ممنوعٌ محرمٌ؛ لأنه تَعَدٍّ على حقه بمزاحمته فيما هو له، هذا من جهة، وتَعَدٍّ على إرادة الأمة التي أنابت حاكمها عنها في تدبير شؤونها من جهة أخرى.
وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" (2245-246، ط. دار الكتب المصرية): [لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر؛ فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك؛ لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعًا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود].
تجريم الثأر من أقارب الجاني
ونَبَّه الشارع أيضًا مع ذلك على وجوب مراعاة العدل عند استيفاء القصاص، والعدل هنا يشمل أمرين:
الأول: ألا يُتَجاوَز إلى تعذيب القاتل قبل إنفاذ الحَدِّ فيه أو التمثيل بجسده بعده.
والثاني: ألا يُتَجاوَز إلى قتل من لا ذنب له ممن له علاقة بالقاتل بقرابة ونحوها؛ فقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.. [الإسراء: 33].
وهذا المعنى المستفاد من الآية الكريمة تجريم لصورة من صور الثأر؛ الذي يُنتَقَم فيه لدم القتيل بقتل أحد من قرابة القاتل.
وهذه عادة من عادات الجاهلية التي جاء الإسلام الحنيف ليقضي عليها، فكان إذا قُتِل منهم قتيلٌ لم يكتفوا بقتل قاتله، بل تَعَدَّوْا إلى أهله وعشيرته، حتى تبقى بينهم الحروب الطاحنة من أجل ثأرهم، وكان يُعْرَفُون بالعصبية القبلية.
جلسات الصلح ومحاولة التصدي للظاهرة
من جهته يقول محمد سيد، رئيس مدينة طامية الذي أحيل للمعاش، وأحد المحكمين في قعدات الصلح، إن ظاهرة الثأر هي ظاهرة خطيرة، ومقلقة للمجتمع وللأفراد معًا، وأنه من الصعب أن تنتهي جذريًا.
ويضيف سيد، أنه كان ضمن العديد من قعدات الصلح، التي نظمتها محافظة الفيوم، بالتعاون مع مديرية الأمن، وأن غالبية عمليات الصلح تكون بعد أن يكون هناك مفقودين من قبل العائلتين، وأنه في حال مقتل أحد أفراد عائلة، تكون عملية الصلح صعبة، لرغبة العائلة المعتدى عليها بأخذ الثأر لفقيدها.
ويبينّ أنه رغم جلسات الصلح الكثيرة التي يقومون بها، إلا أن عملية الصلح لا تتم إلا بعد مرور 6 أشهر على الأقل من التشاجر بين العائلات، وما دون ذلك من الوقت لا يستطيعون بسبب الغضب والثورة تجاه التشاجر الحادثة لدى أفراد العائلات.
ويؤكد رئيس المدينة، أن جلسات الصلح تكون بالاتفاق مع كبار العائلات المتنازعة، مع أطراف أخرى شعبية مؤثرة وأخرى تنفيذية أمنية.
حلول للحد من انتشار الظاهرة
ويرى عصام الزهيري، الكاتب والمفكر، أن الحل يبدأ من تعامل حازم من قبل مؤسسات الدولة والقضاء مع مرتكبي جرائم الثأر الهمجي، بوصفها تشكل خطرا ساحقا على مفهوم الدولة ووجود المجتمع، لا تقل جرائم الثأر خطرا عن جرائم الإرهاب، وإذا كانت جماعة كالإخوان توصف بالفاشية لأنها تعلم أعضائها أن الانتماء للجماعة أهم من الانتماء للمجتمع والوطن والإنسانية، فإن جرائم الثأر العائلي تقوم على فلسفة لا تقل خطورة ولا همجية وعنصرية وفاشية عن ذلك.
كما يرى محمد محمود صالح، المحاضر، أن مشكلة الثأر لن تختفي إلا بتكاتف المؤسسات المعنية مع بعضها، ولن يقتصر الأمر على الأمن فقط، بل لابد من تكاتف التعليم والشباب والرياضة والثقافة، والأحزاب، والرجال المؤثرين في مناطقهم.
ويشير صالح إلى أنه من المستحيل أن من أمسك الكمانجا واستخدم العود في الموسيقى، وزار الأوبرا أن يمسك بسلاح للقتل، ولن يكون متعلمًا ومثقفًا من يقتل، ولن يستطع رياضيًا ومهتم بالثقافة الرياضية أن يكون قاتلًا.